11 - 1 - 2010
س 1 ـ في
البداية نود معرفة جانب من سيرة الدكتور حاكم المطيري ؟ وما هي الأحداث
والأفكار التي جعلت الدكتور حاكم يشرع في تأليف كتاب الحرية أو الطوفان ؟
وما هي أبرز ردود فعل الشارع الإسلامي التي أحدثها صدور هذا الكتاب ..
الردود السلبية منها والإيجابية ؟
حياكم الله جميعا أيها الأخوة الأفاضل في جريدة رؤية والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :
فأشكر لكم
هذه الاستضافة كما أشكر الأخوة المشاركين في الأسئلة وهي بلا شك كلها أسئلة
مهمة وإن كان بعضها ليس من السهل الإجابة عنه باختصار ولا يناسب هنا
الإطالة ومن سيراجع كتابي (الحرية أو الطوفان) وكتابي (تحرير الإنسان دراسة
في أصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي) سيقف على أجوبة هذه
الأسئلة وإنما سأجتهد في اختصار الجواب وبالله التوفيق:
ج 1 ـ السيرة الذاتية : الدكتور حاكم المطيري مواليد الكويت سنة 7/11/1964 .
.حاصل على الإجازة الجامعية من كلية الشريعة جامعة الكويت بمعدل ممتاز مع مرتبة الشرف سنة 1989 م.
. وحاصل
على الماجستير بدرجة ممتاز من جامعة أم القرى بمكة المكرمة كلية أصول الدين
قسم الكتاب والسنة عن اطروحة (الاختلاف على الراوي وأثره على الروايات
والرواة مع دراسة تطبيقية على مرويات حماد بن سلمة في الكتب الستة) في علم
علل الحديث سنة 1995م.
. حاصل على
الدكتوراه من جامعة برمنغهام بانجلترا قسم الدراسات الإسلامية سنة 2000م
عن أطروحة (تحقيق كتاب إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة للسرمري الحنبلي مع
دراسة تاريخ تدوين السنة النبوية وشبهات المستشرقين).
. حاصل على
الدكتوراه من جامعة القرويين بفاس المغرب كلية الشريعة قسم فقه المعاملات
بتقدير مشرف جدا سنة 2006 م عن أطروحته (تحقيق مختصر النهاية والتمام في
الأحكام للكناني).
. مدرس في جامعة الكويت من 2000 إلى 2006 ثم أستاذ مساعد في قسم التفسير والحديث بكلية الشريعة.
. الأمين العام للحركة السلفية 2000 إلى 2005 والأمين العام لحزب الأمة من 2005 إلى 2007م والآن نائب رئيس حزب الأمة.
ـ عضو مجلس
أمناء الحملة العالمية لمقاومة العدوان وعضو الإدارة التنفيذية فيها وعضو
رابطة علماء الخليج العربي وعضو مؤسس في جمعية الكرامة لحقوق الإنسان وعضو
مؤسس المنظمة العربية للحريات والحكم الراشد وغير ذلك من الجمعيات
والهيئات.
وقد كان
اهتمامي بموضوع نظام الحكم في الإسلام منذ وقت مبكر وما قبل الدراسة
الجامعية وقد زاد هذا الاهتمام بحكم اشتغالي بالعمل السياسي والإسلامي وقد
ألفت كتاب (الحرية أو الطوفان) وكتاب (تحرير الإنسان) كإجابة عن الأسئلة
حول طبيعة النظام السياسي الإسلامي وأصوله وقواعده وأحكامه من خلال القرآن
والسنة والخطاب الراشدي وقد وجدت هذه الكتب بحمد الله صدى طيبا عند كثير من
العلماء والمفكرين والسياسيين والقراء على اختلاف ألوان طيفهم السياسي وتم
ترجمة الكتاب الأول إلى الكردية والفارسية وطلب ليترجم إلى الانجليزية
والأوردية وقد كتب عنه بعد صدوره سنة 2004م كثير من الكتاب ومن أبرزهم
الكاتب الإسلامي المفكر المصري فهمي وممن شافهني بالثناء عليه من الدعاة
الشيخ الدكتور سفر الحوالي وقد عبر عن إعجابه به وقال عنه (لم يؤلف في هذا
الباب كمثل هذا الكتاب) وكذا الشيخ عايض القرني وقال عنه (هذا الكتاب هو
كتاب العصر ولم يؤلف مثله) وغيرهم كثير.
س 2- لا
أتحدث عن تيارات جديدة تريد استبدال نظم الحكم الحالية جميعها لإقامة دولة
إسلامية بمبررات كثيرة ( الكفر) ( العلمانية) ( الإلحاد) ...الخ ؟ أتحدث عن
التيارات القديمة هل ما تزال تداعب هذا الحلم وفق رؤية محمد الأمين المصري
مثلا معالم الانطلاقة الكبرى أو كتاب جابر عن الجماعة الإسلامية أو عن
أسلوب الدميجي في العصيان المدني ... السؤال طويل لكن أثاره بعض الحركات
الإسلامية كالقاعدة في أفغانستان وبضع حركات أخرى ؟
ج 2 ـ هذا
سؤال مهم جدا ويحتاج إلى تفصيل وتطويل لخطورته فجذور هذه الأزمة عميقة جدا
وهي ليست أزمة جماعات إسلامية وحركات سياسية، بل هي أزمة أمة ظلت تسود
العالم سياسيا وعسكريا مدة ألف وثلاثمائة وخمسين سنة تقريبا، أي منذ
الفتوحات الإسلامية في عهد عمر بن الخطاب شرقا وغربا إلى سقوط الخلافة
العثمانية في الحرب العالمية الأولى فعليا، وقد كانت هذه السيادة واقعا
تاريخيا وسياسيا من خلال نظام سياسي إسلامي وهو نظام الخلافة الذي كانت له
أصوله وقواعده التي أجمعت عليها الأمة خاصة أهل السنة الذين يمثلون عامة
الأمة، وتحت ظل هذا النظام السياسي تحققت الفتوحات الكبرى في التاريخ
الإسلامي، وفي أحضانه تشكلت الحضارة الإسلامية التي سادت العالم ثقافيا
ومعرفيا وعلميا مدة ألف عام تقريبا، وفي ظلها قام الإسلام الدولة، والإسلام
الدين، والإسلام الأمة، والإسلام التاريخ، والإسلام الحضارة، والإسلام
الهوية، والإسلام المرجعية الفقهية والتشريعية، وسقط بسقوطها كل ذلك،
وانهار كل هذا البناء منذ ذلك الحين وظلت الخلافة وعودتها تعني بالنسبة
للعالم الإسلامي وشعوبه استعادة للإسلام الدولة الواحدة، والأمة الواحدة،
والمرجعية الواحدة، والهوية الجامعة للعالم الإسلامي !
ومن هنا
يجب أن ندرك أبعاد هذه الأزمة كما على الأقل أدركها الغربيون أنفسهم وقد
توقعوا ذلك في كثير من كتاباتهم ومذكراتهم ومن ذلك فرومكين في كتابه (ولادة
الشرق) وبرجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي في كتبه وكتب ريتشار نيكسون
ومذكرات لورنس العرب .الخ
فالتاريخ
يعيد نفسه وإنما يتغير الزمان والأفراد ولهذا فالواقع السياسي للأمم والدول
مسبوق بالأفكار والرؤى التاريخية السابقة، ولهذا كانت الديمقراطية الغربية
اليوم والاتحاد الأوربي ما هو إلا استلهام للتجربة الديمقراطية الأثينية
اليونانية التي قامت قبل الميلاد من جهة، مع استلهام تاريخ الإمبراطورية
الرومانية وقوتها العسكرية وتوحيدها كل القارة الأوربية مدة ألف عام تقريبا
من جهة أخرى، فأعادت أوربا اليوم نفسها من جديد من خلال رؤى فكرية وسياسية
تاريخية داعبت خيال مفكريها في عصر النهضة وتتمثل في الوحدة والقوة
والحرية لشعوب أوربا كلها فإذا تلك الأحلام تتحقق اليوم في الاتحاد الأوربي
والبرلمان الأوربي والدستور الأوربي والعملة الأوربية الموحدة..الخ
وبلا شك
فإن عودة الخلافة من جديد كنظام سياسي يحكم العالم الإسلامي أحق بالاستدعاء
وأحرى بالقبول بالنسبة للمسلمين لا لأنه فرض وأصل من أصول الإسلام وواجب
على الأمة كلها القيام به، بل لأنه الحل للخروج مما تعانيه الأمة اليوم من
ضعف وتشرذم وسقوط شبه كامل تحت نفوذ الاستعمار الغربي سياسيا وعسكريا
واقتصاديا!
وإذا أردت
أن تعرف مدى سقوط العالم الإسلامي تحت النفوذ الأجنبي فانظر كيف تقوم
باكستان وهي من أكبر دول العالم الإسلامي والدولة النووية الوحيدة فيه بشن
حرب على شعبها وتهجير مليون ونصف داخل باكستان لا لشيء إلا استجابة للضغوط
الأمريكية لتأمين طرق الإمداد العسكري لقواتها التي تحتل أفغانستان! فإذا
أقوى دولة إسلامية عسكريا ونوويا مجرد حارس مستأجر لقوات حلف النيتو! وكذا
انظر ما يجري من حصار للشعب الفلسطيني في غزة ومن الذي يقوم به ومن الذي
وقف في صف إسرائيل في حربها تلك على الأمة حتى خرجت وزيرة الخارجية
الإسرائيلية لتقول للعالم (إننا نقاتل نحن وحلفاؤنا العرب في صف واحد ضد
الإرهاب)!
وقد جاءت الحركات الإسلامية بعد سقوط الخلافة وحاولت إحياءها إلا أنها أخفقت في ذلك وكان الخلل يتمثل في:
أولا : عدم
بلورة مشروع الخلافة كنظام سياسي واضح المعالم يعبر عن الإسلام كدين
وعقيدة ـ كالنظم الاشتراكية للشيوعية الأيديولوجية، والنظم الديمقراطية
لليبرالية الأيديولوجية ـ والعجز عن بعثه من جديد على أصول الكتاب والسنة
وما أجمعت عليه الأمة في عصر الخلفاء الراشدين، سواء بالثورة والحل الجذري
أو بالإصلاح السلمي ومعالجة مشكلات الواقع من خلال فقه المقاربات لهذا
الخطاب ولو مرحليا، فكانت الحركات الإسلامية على حالين إما حركات همشت هذا
الموضوع ولم يعد من أولوياتها واهتماماتها أصلا كالحركات السلفية والصوفية
المعاصرة، أو حركات أولتها أهمية غير أن تصوراتها عن الخلافة ظلت رهينة
الخطاب المؤول وما قرره الفقه المؤول كما عبرت عنه كتب الأحكام السلطانية
والسياسة الشرعية، وهو ما لم يجد قبولا لدى عامة المسلمين ونخبهم السياسية
والثقافية التي تتطلع إلى واقع جديد لم تجده في خطاب هذه الحركات، وفي
الوقت الذي نجحت فيه الأقلية الشيعية في إيران من بلورة مشروع سياسي وفق
نظرية ولاية الفقيه بعد تجاوز إشكالية انتظار المهدي ليقف الشعب الإيراني
مع مشروعها السياسي بقيت الأكثرية التي تمثل تسعين بالمئة من الأمة بلا
مشروع سياسي أيديولوجي!
ثانيا :
عدم قيام تنظيمات سياسية تحمل مشروعا سياسيا يعبر عن الخطاب السياسي
الإسلامي السني الراشدي وتناضل من أجل تحقيقه وهو نتيجة حتمية لعدم وجود
المشروع السياسي السني المعاصر أصلا، ففي الوقت الذي قامت تنظيمات شيعية
تحمل المشروع السياسي لولاية الفقيه وهي نظرية حديثة لم يعرفها الشيعة إلا
في هذا العصر، في المقابل لم يقم أي تنظيم سياسي يحمل المشروع السياسي
السني الراشدي، مع أن الخلافة كنظام سياسي ظل يحكم واقع الأمة الإسلامية
سنة وشيعة ثلاثة عشر قرنا!
ثالثا :
عجز الحركات الإسلامية عن التأثير في الواقع السياسي وعجزها عن معالجة
مشكلات الأمة من خلال منظورها الأيديولوجي الإسلامي السني ابتداء من مشكلة
القطرية، وتحديد الموقف منها، وكيفية التعامل معها، ومشكلة الاستبداد
السياسي الذي جعل ثلاثمائة وخمسين مليون عربي مسلوبي الإرادة والتأثير في
واقعهم، وكيفية مواجهته، ومشكلة الاحتلال الأجنبي وسيطرته على المنطقة،
ومشكلة انتهاك حقوق الإنسان العربي، ومشكلة الفقر، وتخلف التنمية إلى آخر
المشكلات التي تعصف في العالم العربي خاصة والإسلامي عامة.
هذا مع
العلم بأن ضرورة استدعاء الخطاب السياسي الإسلامي الراشدي اليوم وأهمية
بلورة مشروع سياسي يقوم على أصوله وقواعده تكمن في عناصر القوة التي تتمثل
في مثل هذا الاستدعاء لهذا الخطاب والتي تتجلى فيما يلي:
أولا : ربط
المشروع السياسي الإسلامي بالأيديولوجيا العقائدية التي هي الأساس لنجاح
أي مشروع سياسي لكي تتجواب معه الحماهير المؤمنة به، فإذا كان النظام
السياسي الاشتراكي يعبر عن الفلسفة الشيوعية كأيديولوجيا وعقيدة، والنظام
الديمقراطي يعبر عن الفلسفة الليبرالية التي عبرت عن المسيحية البرتستانتية
كدين وعقيدة، والنظام السياسي الإيراني اليوم يقوم على أساس ولاية الفقيه
الذي يستند على عقيدة انتظار المهدي والعقيدة الشيعية الإمامية، فإن
المشروع السياسي الإسلامي للأمة يحتاج إلى أيديولوجيا عقائدية يعبر عنها
ويقوم عليها ويستند إليها في إثبات مشروعيته وضرورته وقدرته على تحقيق
الهوية والمحافظة على خصوصيتها أما الحديث عن الحل الإسلامي بخطاب عام لا
تتعرف من خلاله على أي عقيدة أو روح تسري فيه وتحركه فهذا ما أوصلها إلى
المشاركة في تكريس هذا الواقع تحت ظل الاستبداد بل والاحتلال الأجنبي تحت
عنوان فقه الدعوة والمصلحة دون وجود أصول عقائدية قاطعة محددة وهو ما
يحتاجه أي مشروع سياسي ليضحي المؤمنون به من أجله ولهذا فحين ترى ما يقوله
من يرفعون شعار (الإسلام هو الحل) لا تتبين من مشروعهم ما هي هويتهم
وعقيدتهم وأي تجربة تاريخية يستلهمونها!
ومن الخطأ
هنا تصور أن تناضل الشعوب الإسلامية دفاعا عن الديمقراطية الإسلامية التي
تعني حكم الشعب للشعب بالشرع مهما كان هذا الأمر حقا مشروعا لها ما لم
يرتكز على أساس عقائدي أيديولوجي يجعل من الموت في سبيله أمرا مشروعا وهذا
ما لم يدركه السياسيون والمفكرون والإصلاحيون في العالم الإسلامي الذين
جردوا رؤاهم السياسية من الأساس العقائدي وقدموها بعموميات إسلامية لا تشكل
أساسا عقائديا محكما قادرا على تفنيد الخطاب السائد من جهة واستعادة
الهوية من جهة أخرى في الوقت الذي تواجههم الحكومات المستبدة على اختلاف
أشكالها بخطاب عقائدي!
ثانيا:
وضوح أصول الخلافة الإسلامية كنظام سياسي وقوة أساسها الديني الذي تقوم
عليها إذ تواترت نصوصها تواترا قطعيا كما أجمعت الأمة على أصولها العامة
ونقل ذلك علماء الأمة وأئمة السنة في كتبهم العقائدية والفقهية فقال النووي
رحمه الله: (وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب خليفة) وقال(واتفق
العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد سواء اتسعت دار
الإسلام أم لا) ونقل الإجماع عليه القرطبي وقال (هذه الآية ـ {إني جاعل في
الأرض خليفة} ـ أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة،
وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة ..
فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين) كما
أجمعوا على أنها تنعقد بالشورى والاختيار ...الخ
فإذا كانت
ولاية الفقيه تجد اعتراضا شديدا من عامة المراجع الشيعية لكونها تعارض أصل
الانتظار للمهدي الغائب عند الشيعة، فإن أصول الخلافة العامة محل إجماع بين
الصحابة وسلف الأمة والأئمة وعلماء السنة، بل لا وجود للأمة تاريخيا ولا
قيام لمذهب أهل السنة والجماعة إلا بالخلافة التي تعبر عن (الدولة
الواحدة)والجماعة التي تعبر عن(الأمة الواحدة)!
بل إن شعار
(السنة) قائم أصلا على عقيدة إثبات خلافة الخلفاء الراشدين وأنها بالشورى
والاختيار لا بالنص أو الاضطرار وشعار (الجماعة) معبر عن عقيدة (وحدة الأمة
والدولة) وضرورتهما لقيام (الإسلام الدين) عقيدة وشريعة لتنظيم كل شئون
الجماعة الأمة، فكان الشعار بمدلولاته السياسية أوضح دليل على ضرورة
الخلافة ووحدة الأمة السياسية في الأيديولوجيا السنية الغائبة!
ثالثا: أن
الخلافة ليست نظرية سياسية أو عقيدة دينية فقط بل هي الواقع السياسي
التاريخي للأمة مدة 1300 سنة ففي ظلها قامت الدولة الإسلامية وامتدت
جغرافيا وديمغرافيا، وفيها قامت الحضارة والرقي والتطور الذي عاشه العالم
الإسلامي على تنوعه القومي والديني والثقافي، ولم يمض على سقوطها وغيابها
تسعون عاما، بل مازال بين أظهرنا اليوم من أدركها وعاش تحت ظلها كنظام
سياسي إسلامي جامع لوحدة الأمة، ووحدة الدار، ووحدة السلطة، ومعبرا عن
دينها وهويتها وخصوصيتها، وهو ما يجعل استدعاءها اليوم أسهل لا من حيث
التنظير فقط بل التطبيق أيضا، بينما ظلت أوربا بعيدة العهد بالديمقراطية
الأثينية نحو ألف وسبعمائة سنة تقريبا، وبالوحدة الرومانية نحو ألف سنة
تقريبا!
رابعا: أن
الخلافة كنظام سياسي وقانون دستوري ومؤسسة حكم نجحت في عصور كثيرة من تطوير
مؤسساتها وآلياتها وفقهها مع تطور الحياة السياسية، فكانت أقدر النظم
السياسية على الاستجابة للظروف المحيطة بها، ولهذا عرفت كنظام سياسي
ودستوري صلاحيات الخليفة والوزير الأول، والخليفة والسلطان، في العصر
العباسي ـ بعد أن قويت شوكة السلاطين وضعفت شوكة الخلفاء ـ وهو نظام أشبه
برئاسة الوزراء ـ كما عرفت صلاحيات الخليفة والصدر الأعظم، والدستور،
والبرلمان في العصر العثماني، وهو ما يؤكد حيويتها وقدرتها على مسايرة تطور
العصور كمؤسسة حكم وكنظام سياسي ودستوري ما جعلها تواجه كل التحديات مدة
1300 عام وهي أطول الأنظمة السياسية التي عرفها العالم عمرا وإنما سقطت
بحرب استعمارية صليبية كبرى خططت على إسقاطها أوربا منذ معاهدة كارلوفوجه
سنة 1699م كما ذكره المؤرخ الفرنسي غروسيه في كتابه(وجه آسيا) ثم في مؤتمر
برلين سنة 1880 م وتوج ذلك بإسقاطها بعد الحرب العالمية الأولى وقد ضج
العالم الإسلامي آنذاك من أقصاه إلى أقصاه وأدرك علماء الأمة مدى خطورة
سقوطها وأنه لا بقاء للإسلام بسقوط الخلافة كما عبر عن ذلك آخر شيوخ
الإسلام في الدولة العثمانية الشيخ مصطفى صبري ومحمد رشيد رضا فلم يكن سقوط
الخلافة بعد الحرب العالمية الأولى على يد الحملة الصليبية الثامنة على
العالم الإسلامي حدثا سياسيا فقط ـ كما يتصوره البعض ـ بحيث يمكن معالجة
إشكالاته بحلول سياسية مؤقتة أو بدول قطرية تمثل دويلات الطوائف بل كان
حدثا مفصليا في تاريخ العالم الإسلامي ما زالت الأمة كلها تعيش تداعياته
إلى يومنا هذا سياسيا وعسكريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وروحيا حيث تعيش
الأمة كلها أزمة هوية كبرى.
كما عرفت
الخلافة النظام المركزي للدولة وذلك في الخلافة الراشدة والأموية وصدر
العباسية ثم عرفت النظام اللامركزي في العصر العباسي الثاني حيث صار
الأمراء في الأقاليم أكثر استقلالا إلا أن شرعيتهم ظلت مرتبطة بالخلافة ولم
يستطع أحد من ذوي السلطان مع ضعف الخلافة ومركزها أن يتجاوز شرعيتها
السياسية والقانونية والاجتماعية حيث ظل المسلمون وفقهاؤهم وزعماؤهم يدينون
بالطاعة للسلطة الشرعية والخلافة مع ضعفها لقوة الأساس العقائدي والفقهي
الذي ترتكز عليه كركن من أركان الإسلام وهو ما حفظ للعالم الإسلامي وحدته
السياسية والتشريعية قرونا طويلة فما إن جاء المماليك وانتقلت الخلافة
العباسية إلى مصر حتى أخذت تعود الدولة إلى مركزيتها من جديد وما إن تنازل
الخليفة العباسي للخليفة العثماني سليم الأول حتى عادت الخلافة والدولة
الإسلامية من جديد دولة مركزية موحدة امتدت من أقصى العالم الإسلامي إلى
أقصاه وحتى الأجزاء التي لم تصل لها جيوش الخلافة العثمانية ظلت تدين
بالولاء وتعترف بالتبعية للخلافة كنظام سياسي يقوم على أصل وحدة الأمة
ووحدة الدار والوطن الإسلامي ووحدة الدولة والسلطة ووحدة المرجعية
التشريعية والدستورية وخصوصية الهوية.
ومن هنا
يظهر مدى زيف الثقافة الوطنية التي تحاول الهويات القطرية المصطنعة اليوم
إشاعتها بأن الأمة لم تجتمع منذ الفتنة في الصدر الأول وأنها تمزقت منذ ذلك
الحين وصار لكل قطر إمام وهي إحدى الأكاذيب التي ظهرت في فترة متأخرة
وصدقها من لا علم له بواقع الأمة وأحوالها وقد ألفت كتاب (الحرية وأزمة
الهوية) لكشف أبعاد هذه الأزمة والثقافة المأزومة التي شاعت تحت ظل
الاحتلال الغربي للعالم الإسلامي!
خامسا: أن
البديل عن الخلافة الذي أقامه الاستعمار الغربي المتمثل بالدولة القطرية قد
أثبت فشله وضعفه فلا هو حقق أمنها واستقرارها ولا حقق تطورها ونموها
وازدهارها ولا حافظ على هويتها وخصوصيتها ولا أقام دينها وشريعتها بل هي
دول وظيفية تقوم بالدور المنوط بها من قبل القوى الاستعمارية التي أوجدتها
وحمتها وفرضتها وانظر إلى ما يجري في العراق وأفغانستان اليوم وقس عليه ما
جرى للمنطقة منذ سنة 1900م سيظهر لك تماما المشهد بكل أبعاده وتفاصيله!
سادسا: أن
عودة الخلافة من جديد هي بشارة نبوية تواترت تواترا معنويا في أحاديث كثيرة
كما في حديث(تكون النبوة فيكم ما شاء الله لها أن تكون ثم تكون خلافة على
منهاج النبوة ثم يكون ملكا عضوضا ثم ملكا جبريا ثم تعود خلافة على منهاج
النبوة) ولم تعرف الأمة في تاريخها كله غيبة الخلافة إلا في هذا العصر مما
يبشر بعودتها قريبا ومعلوم ما للبشارة العقائدية من قدرة على استثارة
المشاعر الجماهيرية نحو تحقيق أهدافها وليست الخلافة رجلا تختاره الأمة بل
هي نظام سياسي له فلسفته وأصوله وقواعده وأحكامه ومؤسساته فهو يعبر عن وحدة
الأمة ووحدة الدولة ووحدة الدار وليس للخلافة شكلا محددا بل ما عبر عن هذه
الأصول وحقق هذه الغايات والأهداف فهو خلافة إسلامية راشدة فمتى ما اتحدت
الشعوب والدول في العالم العربي والإسلامي أو أكثرها باختيارها أو من خلال
من يوحدها سواء في اتحاد فدرالي أو كنفدرالي أو على نمط الاتحاد الأوربي
ومتى ما تم تحقيق الحرية لشعوبها واحترام إرادتها في اختيار من يمثلها
ويحكمها بشريعتها وحماية أمنها واستقرارها وصيانتها من أي تدخل أجنبي في
شئونها كلها ومراعاة خصوصية أهل كل قطر ثقافيا ومذهبيا وتحقيق النهضة
والتنمية الشاملة وتعزيز الحريات العامة للأفراد والأقليات واحترام حقوق
الإنسان فثم شرع الله ودينه وخلافته.
إن كل ما
سبق ذكره يجعل من العمل على بلورة هذا المشروع السياسي لا حلما يداعب خيال
المصلحين فقط بل فرضا على الأمة وخيارا استراتيجيا تقتضيه الضرورة سياسيا
واقتصاديا وأمنيا إلا أن نجاحه وتحققه على أرض الواقع مرهون بتحقق أهدافه
المرحلية المفصلية التي قد تحتاج إلى عقود من العمل الدؤب الممنهج وفق
برامج عمل للقوى الإصلاحية الحية التي تعمل على التبشير به وتسعى لتحقيقه
ولو من خلال الواقع القائم إن أمكن الضغط على الحكومات أو إقناعها به
وبأهدافه وهذه الأهداف تتمثل في:
1 ـ تعزيز
الحريات العامة في كل بلد لتحرير إرادة شعوب الأمة من الاستبداد الذي صادر
حريتها وإرادتها حتى لم يعد لشعوبها أي أثر في مجريات الأحداث التي تعصف
بها.
2 ـ تعزيز الوحدة بين شعوبها وباختيارها ومشاركتها لتحقيق التكامل السياسي والاقتصادي والعسكري بين دولها.
3 ـ التحرر والاستقلال عن كل أشكال الاحتلال والنفوذ الأجنبي الذي يحول دون حريتها ووحدتها وعودة شريعتها وخلافتها.
4 ـ ضرورة التنمية في جميع المجالات ابتداء بالإنسان وانتهاء بالمجتمع والدولة للخروج من حالة التخلف.
فهذه أهداف
مرحلية ضرورية لنهضة الأمة من جديد وعودتها إلى مسرح العالم كقوة دولية
قادرة على الإسهام في الحضارة الإنسانية وبعث الروح فيها مرة أخرى.
أي أننا
نحتاج قبل عودة الخلافة الراشدة إلى إقامة أنظمة حكم راشدة في كل بلد لتحقق
لشعوبها الحرية والعدل والتنمية وتعزز الوحدة فيما بينها وتسعى لاستغناء
عن الوجود الأجنبي ونفوذه عليها ..الخ
س 3 ـ لا
شك أن معظم الأنظمة العربية هي أنظمة قمعية استعبدت شعوبها وحرفت القيم
والثوابت الدينية وسعت في الأرض فسادا ودمارا- والسؤال لماذا هذا الصمت
العجيب من هذه الشعوب التي لا تطالب بحقها النظامي وهو نظامي - لماذا هذه
الشعوب ارتضت الذل والهوان ؟ وما هي الآلية والوسائل لتحريك هذه الشعوب
للمطالبة بحقوقها الشرعية وحقوقها الدولية ؟
ج 3 ـ هذا
الواقع شكله ورسمه كما سبق ذكره حملة استعمارية كبرى على العالم العربي
سيطرت عليه وما زالت تسيطر بشكل أو بآخر ومن خلال حكوماته التي أقامها
الاستعمار الغربي أو حافظ على وجودها وهي حكومات ذات دور وظيفي محدد وهو
ضبط الأمن الداخلي للمحافظة على هذا الواقع وتكريس التبعية بكل صورها للقوى
الاستعمارية وقواعدها العسكرية وأساطيلها ومصالحها في المنطقة على حساب
شعوبها وقد نجحت الحكومات بما لديها من ثروات وآليات في تشكيل خطاب ديني
رسمي وشعبي يرفض التغيير ويضفي الشرعية على هذا الواقع السياسي المرير
وصارت الشعوب هي الضحية حتى صارت أكثر الحركات الدينية ومرجعياتها سنية
كانت أو شيعية تكرس هذا الواقع بإضفاء الشرعية على الاحتلال المباشر كما في
العراق وأفغانستان والاحتلال غير المباشر كما في أكثر الدول في العالم
العربي والإسلامي بمستويات متفاوتة غير أنها كلها ترفض التغيير وتتخندق مع
تلك الحكومات لمواجهة كل قوى الإصلاح والتغيير!
ووصل الحال
في الأمة ـ من غيبة الوعي واستقالة العقل وانتظار عودته ـ بمن يحملون شعار
(يالثارات الحسين) ومن يحملون شعار(الإسلام هو الحل) كحزب الدعوة الشيعي
والحزب الإسلامي السني في العراق أن يكونوا هم طلائع قوات الاحتلال
الأمريكي والمشاركين في ترسيخ وجوده وأن تكون المرجعيات الدينية هي من يضفي
على الاحتلال ومشروعه السياسي وحكومته التي فرضها الشرعية الدينية ولا
يحتاج الاستعمار إلا لمجرد التفاهم من وراء الكواليس مع هذا المرجع الديني
أو ذاك حتى تتوقف المقاومة وتكون الحكومة وطنية ثم يخرج رئيس الوزراء
ليتحدث عن ضرورة احترام دول الجوار لسيادة العراق الذي يحتله مائة ألف جندي
أمريكي! بينما تخرج المظاهرات بالملايين ترفع يالثارات الحسين وتنوح عليه
بينما العراق كله مذبوح على يد الاحتلال من الوريد إلى الوريد ولا بواكي
عليه ولا ثأر له!
والحال
كذلك بالنسبة لأكثر المرجعيات والمؤسسات والحركات الدينية في العالم العربي
سنية كانت أو شيعية فهي لا تكاد تخرج عن عباءة الأنظمة التي تعيش في كنفها
إلا في أضيق الحدود التي لا تتجاوز دور كاتب مقال معارض هنا أو ناقد يبدي
امتعاضه ورأيه بكل غضب ضد السلطة هناك ومع ذلك يرفض رفضا قاطعا تغييرها!
حتى وإن
تظاهرت تلك الجماعات بالمعارضة أو الرفض لهذه الحكومة أو تلك فإنها سرعان
ما تقف فجأة خلفها إذا كادت تحدث حركة تغيير فعلية!
ولا شك أن
غيبة الوعي هذه تحتاج من العلماء المخلصين والمفكرين والسياسيين المؤمنين
بضرورة الإصلاح البدء بنشر الوعي الشرعي والسياسي والعمل على استعادة كرامة
الإنسان المسلم وهويته التي تم استلابها وتغييبها باسم الدين تارة وباسم
الفكر تارة أخرى حتى صار عالم الدين أو الداعية الإسلامي يتسابق مع المفكر
القومي والكاتب الليبرالي والأديب والمثقف والشاعر في ممارسة تضليل وعي
الرأي العام وتغييب العقل الجماعي لصالح الأنظمة الحاكمة في العالم العربي
مع شدة تخلفها واستبدادها وفسادها حتى صارت الشعوب العربية من أكثر شعوب
العالم خنوعا للاستبداد وخضوعا للاستعمار على نحو غير مسبوق!
س4 ـ سؤالي
حول ما ذكرتموه في كتابكم " الحرية أو الطوفان "...من جواز تشكيل الأحزاب
بناء على وجود الخوارج في زمن الصحابة , فهل ترون بناء على ذلك أن النظام
الإسلامي يجيز قيام أحزاب علمانية وشيوعية مثلاً...وهل يمكن تسوية تلك
الفرق التي تنتسب للإسلام كالخوارج والمعتزلة بفرق ومذاهب لا دينية
كالعلمانية ؟
ج 4 ـ هذه
قضية أشكلت على بعض القراء حتى في تأصيلها الشرعي وتوضيحا لهذه القضية نقول
بأن الصحابة أجمعوا على بطلان رأي الخوراج وضلاله وكذلك أيضا أجمعوا على
إقرارهم وعدم التعرض لهم ما لم يتجاوزوا دائرة الرأي إلى الفعل فلما صالوا
على الأمة بالسيف قاتلهم علي رضي الله عنه دفعا لصولتهم وعدوانهم لا
لبدعتهم وانحرافهم ولهذا قال (لهم علينا ثلاث أن لا نبدأهم بقتال وأن لا
نمنعهم من مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه وأن لا نمنعهم من الفيء) فقد أقر
لهم بكل حقوقهم مع قوله عنهم (قوم أصابتهم فتنة فعموا وصموا) وهذا الرأي
الراشدي هو قياس الأولى والقياس بمعنى النص كما يقول الأصوليون فلا تعارض
بين الإقرار لهم وتركهم وعدم التعرض لهم من جهة وتخطئة رأيهم من جهة أخرى
فإذا كان الإسلام يقر وجود أهل الكتاب من اليهود والنصارى على شركهم
والمجوس الذين يعبدون النار على وثنيتهم في ظل الدولة الإسلامية ويحفظ لهم
دماءهم وأموالهم وأعراضهم ويجعل لهم ذمة الله ورسوله وهي الحرية والتعددية
الدينية التي لم يعرفها العالم قبل ظهور الإسلام وعدله ورحمته فمن باب أولى
المسلمون إذا اختلفوا في دائرة الإسلام أن تكفل لهم الحرية المذهبية ولهذا
أجمع الصحابة على هذا الأصل وهو حرمة دماء المسلمين وأعراضهم وأموالهم مع
اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وصار ذلك أصلا من أصول أهل السنة وأنهم لا يكفرون
أهل القبلة ولا يستحلون دماءهم وبهذا الفقه الراشدي من الخليفة الراشد علي
بن أبي طالب عصم الله الأمة من الحروب الطائفية وعاش المسلمون على اختلاف
طوائفهم مع باقي أهل الأديان في عواصم الإسلام كبغداد ودمشق وقرطبة
والقاهرة تحت ظل الخلافة قرونا طويلة دون أن يعرفوا الاضطهاد الديني أو
المذهبي حتى خرج المتنطعون والمتطرفون الذين يستغلون الطائفة أو المذهب
لتحقيق أغراضهم السياسية كما فعل العبيديون في المغرب والقرامطة الباطنيون
في الجزيرة العربية والصفويون في إيران وغيرها من الحركات الظلامية في
التاريخ الإسلامي التي مارست الاضطهاد الديني للطوائف الأخرى وهي الشذوذ من
القاعدة العامة في تاريخ المسلمين القائم على التعددية والتسامح والحرية
في ظل الخلافة قرونا طويلة.
وكما أن
إقرار الحرية الدينية لأهل الكتاب والمجوس في الدولة الإسلامية لا يعني صحة
أديانهم إذ كل دين سوى الإسلام باطل إلا أنه من عدل الإسلام ورحمته أن قرر
قاعدة {لا إكراه في الدين} {من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} فمهمة الدولة
الإسلامية الحكم بين الخلق بالعدل والقسط والحق وأما الشرك فحسابه عند الله
يوم القيامة {وأمرت لأعدل بينكم} {لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم
الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط} {قل أمر ربي بالقسط}{إن الله يحكم
بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون}.
إذا تقرر
هذا الأصل وهو إقرار الشريعة للتعددية الدينية وإقرار الصحابة قياسا على
ذلك التعددية الطائفية والمذهبية فإنه من باب أولى إقرار التعددية السياسية
والجماعات السياسية التي تؤمن بالإسلام ونظامه السياسي وتلتزم بالنظام
العام للدولة الإسلامية وتتنافس فيما بينها لخدمة المجتمع والمشاركة في
إدارة شئون الدولة والرقابة على السلطة لتختار الأمة من تراه أهلا لقيادتها
من تلك القوى السياسية كما حصل يوم السقيفة إذ كان هناك المهاجرون من جهة
والأنصار من جهة أخرى ووقع بينهما التنافس والتنازع السياسي في شأن الخلافة
وحتى قيل(منا أمير ومنكم أمير) مما يؤكد مشروعية وجود مثل هذه التعددية .
وهذا كله
إذا كان نظام الدولة ومرجعيتها الإسلام وكان للأمة يد في إقرار ذلك وفرضه
وحمايته فلا يتصور أن يوجد في دولة الإسلام حزب سياسي يريد تقويض نظامها
العام فهذا ما لا يسمح بوجوده في أي نظام في العالم ولهذا لا يكاد يوجد في
الدول الديمقراطية أو الليبرالية حزب نازي أو فاشستي أو شيوعي ماركسي لأنها
تشكل خطرا على نظامها العام الذي ارتضته الأكثرية وإنما يسمح للأحزاب
بممارسة العمل السياسي بشرط الالتزام بنظام الدولة العام!
ولهذا
رأينا كيف أن المنافقين لما ارتضوا بالظاهر بحكم الإسلام كانوا مسلمين لهم
كامل الحقوق السياسية فكانوا يشاركون في الشورى ويسمع النبي صلى الله عليه
لهم وكانوا يعترضون على سياسته وعندما توفي ارتد أكثر العرب مما يؤكد أن
الالتزام بالنظام العام للدولة في الإسلام كاف في ضمان الحقوق السياسية
بقطع النظر عن مدى الإيمان بذلك إذ الحكم على الظواهر والله يتولى السرائر.
أما في ظل
الأنظمة الاستبدادية اليوم التي تحكم بالوكالة عن الاستعمار الأجنبي وفي ظل
مصادرة إرادة الأمة كلها لصالح عصابات إجرامية هنا وهناك تحكم هذا البلد
أو ذاك وفي حال أمة مسلوبة إرادتها مغلوبة على أمرها فإن الحديث يجب أن
يركز على تحرير الشعوب ووعيها وإرادتها لتختار النظام السياسي الذي تريده
وطبيعة الدولة التي تعبر عن هويتها وعقيدتها وتحافظ على كيانها ومصالحها
دون الانشغال بالصراع مع طواحين الهواء مع هذا التيار أو ذاك ليبقى الطاغوت
جاثما على صدر الأمة المشغولة بالاقتتال الفكري فيما بينها دون أن تغير من
واقعها شيئا وأن يتصارع المستضعفون فيما بينهم كما يتعارك المسجونون في
السجن بينما السجان يتفرج عليهم فرحا بما يصنعون!
س 5 ـ
برأيكم إلى أي حد يمكن أن ينجح اعتماد سياسة التغيير السلمي في ظل أنظمة
تابعة للقوى الصهيو أمريكية، وتستمد مشروعية بقائها من هناك ؟ ولم يكون
النقيض من التغيير السلمي (العنف ) وارتباط هذه الكلمة الأخيرة بأجواء
كريهة لا تنمو في ظلها أي مبادرات أو محاولات للإصلاح والتغيير تعتمد ولو
الصدام مع الأنظمة ليس عسكريا ولكن على الأقل فكريا وثقافيا بكشفها وفضح
ممارساتها والدعوة لمقاطعة أي انتخابات تستعمل فيها الحركات الإسلامية
كلاعب أو كواجهة تخفي الاستبداد والفساد السياسي والاقتصادي؟ وهل تجرؤ أي
حركة إصلاحية حتى ولم تصطبغ بالإسلامية من الدعوة مثلا لعدم الانخراط في
سلك الشرطة أو القضاء وتجريم وتحريم ذلك إن لم يكن من منظور شرعي واجب
التفعيل فمن منظور العصيان المدني الذي يشل الأنظمة ويحرجها ؟ ألا ترون
فضيلتكم أن عملية التغيير في عالمنا ما لم تتصدر تغيير قادة الحكم ستظل
تدور في فراغ ممتد يكرس واقعا يراد للأمة تنفذه الأنظمة بكل إمكاناتها ؟؟
ج 5 ـ لم
أستطع فهم كل فقرات هذا السؤال إلا أن البدء بالدعوة إلى الإصلاح السلمي هو
المدخل الطبيعي والمنطقي لحركات الإصلاح في التاريخ كله بما في ذلك الدعوة
النبوية إذ ليس المقصود الاصطدام بالسلطة أو المجتمع بل المطلوب الإصلاح
والتغيير نحو الأفضل إلا أنه بعد أن تصبح الدعوة للإصلاح دعوة عامة لها
أنصارها وأتباعها ومشروعها الواضح وتجد قبولا عاما فإذا رفضت حينئذ السلطة
المبادرة للتغيير فهنا يحق لأي حركة إصلاحية ممارسة الوسائل السلمية للضغط
على السلطة للاستجابة لمطالبها وحين تتعنت السلطة في رفضها ويسد أفق
الإصلاح وتستجمع الأمة قدرتها وتتوفر الظروف الموضوعية للتغيير فحينئذ
للشعوب الحق في اللجوء إلى القوة حين لا يكون هناك طريق غيرها ابتداء من
المظاهرات السلمية والدعوة للعصيان المدني وانتهاء بالثورة الشعبية العامة.
أما
المشاركة السياسية من قبل الحركات الإسلامية في الانتخابات تحت ظل أنظمة
استبدادية فهي مسألة اجتهادية فإن كانت تتوقع التغيير نحو الأفضل وأن
مشاركتها تسهم في تحقيق الإصلاح العام ولو تدريجيا فهنا تكون المشاركة
مقبولة أما إن كانت تلك المشاركة مقابل الاعتراف بشرعية ذلك الواقع وتلك
الأنظمة وتكريس وجودها والتحالف معها فهنا تفقد هذه الحركات مشروعية وجودها
أصلا ومن حق السلطة ما دامت تتمتع بالشرعية في نظر تلك الحركات أن تحظر
نشاطها!
وعلى كل
حال فاستخدام التغيير السلمي لتحقيق ما يمكن تحقيقه من إصلاح لا يسقط حق
الأمة وشعوبها بالتغيير الثوري وبالقوة كما جاء في الحديث الصحيح (إلا أن
تروا كفرا بواحا) أي فلكم الحق بالمنابذة بالسيف والقوة فهذا حق كفله
الإسلام لا يمكن بأي حال من الأحول مصادرته على الأمة بمجموعها إلا أن هناك
مجالا قبل ذلك للإصلاح السلمي لم يستخدم ولم تقم الأمة بدورها فيه ومن ثم
لا يتصور أن تقوم أمة بالواجب الأثقل قبل أن تقوم بالأسهل فالأمم التي تعجز
عن الصدع بكلمة الحق وإبداء الرأي والدفاع عن المظلوم هي أعجز عن أن تقوم
باستخدام القوة لتغيير الظالم نفسه وإسقاطه!
فالأمة في
حاجة إلى استعادة وعيها ومعرفة حقيقة دينها وهويتها وما يجري حولها ثم
التعبير عن ذلك من خلال قوى سياسية منظمة حية تعمل على بلورة مشروعها
السياسي السلمي البديل وتحضير الشارع وتهيئته للقيام بحقه ودوره في الإصلاح
المنشود وحينها ستتغير الأمور لصالح الأمة وشعوبها هذا إذا لم تبادر
الحكومات نفسها حين تدرك خطورة الوضع للدفع باتجاه الإصلاح السلمي وتحقيق
ما تصبو إليه شعوبها.
س 6 ـ ألم
يحن الوقت لتتخلى حركات الإسلام السياسي عن (شبقها السلطوي) وتتفرغ
للانخراط مع باقي القوى المدنية في إرساء دولة المؤسسات والقانون والعدل
والحرية والديمقراطية..... وتكون أدوات التغيير سلمية ... بعيداً عن الخطاب
الديني... ويكون الخطاب عقلاني يناسب الشريحة العظمى من الناس ؟؟
ج 6 ـ كما
ذكرت في جواب السؤال الثاني الأزمة أعمق مما يتراءى لنا وليست هي قضية صراع
بين حركات إسلامية وحكومات للوصول إلى السلطة فالعالم العربي يعيش كله
حالة من التخلف والاستبداد والفساد السياسي والإداري حتى باتت أكثر دوله بل
كلها مصنفة ضمن نطاق الدول الفاشلة الآيلة للسقوط والانهيار مع أن أكثرها
لا يوجد فيه صراع بين حركات إسلامية وحكومات بل أكثرها تجد الحركات
الإسلامية فيه دعما من تلك الحكومات ليتم في المقابل إضفاء الشرعية على تلك
الأنظمة!
وكذلك ليس
هناك ديمقراطية في أي بلد عربي إذ الديمقراطية تعني حكم الشعب للشعب فأين
هو الشعب العربي اليوم الذي يختار حكومته بإرادة حرة نزيهة؟!
كما لا
توجد قوى مدنية حقيقية تسعى إلى إرساء دولة المؤسسات والقانون والعدل في أي
بلد عربي بل الموجود إما معارضة حقيقية محاربة من قبل الأنظمة سواء كانت
إسلامية أو قومية أو ليبرالية فهي في السجون والمعتقلات دون أي تهمة! وإما
قوى مجتمع مدني وهمية لا يصدق عليها أنها قوى ولهذا تحرص الحكومات الفاشلة
على إيجادها لتثبت أن لديها قوى تسعى للإصلاح السلمي العقلاني بينما هي وجه
آخر للأنظمة التي تحاول توظيف الطاقات الذكية بالأموال واستغلالها لتكريس
الواقع ليس إلا ولهذا تفاجأ بمدى ما تكيله مثل هذه القوى من مديح لحكوماتها
الفاشلة حسب التصنيف الدولي ومسارعتها للدفاع عنها وعن حقوق الإنسان
فيها؟!
وأما
إشكالية الخطاب الديني والخطاب العقلاني فلا أتصور أنها حقيقة علمية بل هي
إشكالية مختلقة فليس كل خطاب ديني غير عقلاني ولا كل خطاب غير ديني عقلاني!
بل لا يوجد
مشروع سياسي أو نظام سياسي لا يقوم على أساس عقائدي أيديولوجي بما في ذلك
الأساس الأخلاقي لليبرالية فإنه لا معنى له إلا كونه مسلمات بدهية يؤمن بها
الليبراليون ويعتقدون أنها الحق ويناضلون من أجلها ولها جذورها في
البرتستانتية المسيحية.
ثم إن أي
حركة إصلاحية في العالم العربي تتجاوز الدين كأحد أهم محركات الشعور
والوجدان والعقل لدى الشعوب والجماهير فإنها تحكم على مشروعها بالموت ويظل
دائرة حراكها النخب المخملية أو النخب العسكرية الطامحة للسلطة بعيدا عن
جماهير الأمة ولهذا رأينا كيف أسهمت الكنيسة الأرثوذكسية في مقاومة
الشيوعية في روسيا والوقوف مع حركة التحرر فيها وكذا وقوف الكنيسة
الكاثوليكية في بولندا ووقوفها مع حركة التضامن بل دورها في إسقاط الشيوعية
في أوربا الشرقية كلها وكذا دور البرتستانتية في بريطانيا وأمريكا وكيف
وصل التيار الصهيو مسيحي الجديد لسدة الحكم فيها لينفذ طموحها ولهذا أطلق
كثير من زعماء أوربا تصريحاتهم بأن الحرب التي يخوضونها ضد ما يسمونه
الإرهاب في العالم الإسلامي هي حرب صليبية كما صرح بذلك الرئيس الأمريكي
جورج بوش الثاني ورئيس الوزراء الإيطالي برلسكوني وغيرهم ليستثيروا بذلك
الحس الديني عند شعوبهم مع أنها تكاد تكون شعوبا لا دينية إلا أن المسيحية
صارت بالنسبة إليها ثقافة قومية جامعة ومحركة للشعور الشعبي الأوربي؟!
7-أيهما
(سيكون) أخطر من ناحية العواقب، نتائج الكفاح أم نتائج الخنوع للأنظمة
العربية الحاكمة؟ وهل "الفتنة" التي نتفاداها ستكون أشد من الفتنة الحاصلة
والمتوقع حدوثها كنتيجة للسكوت على الظلم في العالم العربي والإسلامي؟
ج 7 ـ قال
تعالى {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} وهذه سنة اجتماعية
لا تتخلف وانظر إلى تجارب الأمم من حولك وستجد كيف صلحت أحوالها على اختلاف
قومياتها وأديانها وقاراتها بعد أن انتصرت ممن ظلمها سواء كان احتلالا
أجنبيا أو مستبدا وطنيا بل إن أسوء الأمم حالا في العالم كله هي التي صبرت
على الجور وخنعت للظلم بينما الأمم التي تسود العالم هي التي شهدت الثورات
وغيرت واقعها كالشعب الفرنسي والروسي والأمريكي والصيني والبريطاني فالدول
الخمس الكبرى في العالم التي تتحكم به كلها تحكمها أنظمة هي نتاج ثورات
شعبية كبرى وليست انقلابات وثورات عسكرية!
وانظر إلى
دول أوربا الشرقية كلها كيف كان حالها لما خنعت للاستبداد وكيف تغيرت
أوضاعها بعد ثوراتها الشعبية السلمية والعنيفة بعد سقوط الاتحاد السوفيتي
ولم يترتب على تلك الثورات من المفاسد واحد بالمئة مما ترتب من المفاسد في
العالم العربي الخانع تحت الاستبداد والاضطهاد والفساد بكل صوره والعقائد
تختبر آثارها على واقع المؤمنين بها كما تختبر المادة في المختبر فانظر إلى
آثار نظرية الصبر على الجور كيف صنعت في عالمنا العربي وقارنها بما فعلت
نظرية الثورة والتغيير في واقع الأمم الأخرى وستكون النتيجة هي الحكم!
لقد وعد
الله بنصر المظلوم إلا أنه شرط لتحقق النصر في الدنيا شروطا إن لم تتحقق لا
يتحقق النصر عادة على الظالم في الدنيا بدونها بل يؤخر الله الانتقام منه
في الآخرة ومن تلك الشروط ما جاء في أبرز صفات أهل الإيمان {الذين استجابوا
لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون..والذين إذا
أصابهم البغي هم ينتصرون} أي يدفعون الظلم عن أنفسهم ولا يخنعون ولا يذلون
{ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} فالشرط لتحقق النصر وانتصاف
المظلوم من الظالم هو انتصار المظلوم لنفسه ورفضه للظلم ودفعه ومقاومته
أما إذا رضي بالظلم واستسلم له فإن جزاءه في الدنيا الهوان والذل كما هي
سنة الله الاجتماعية التي لا تتخلف وفي الآخرة ينتقم الله للمظلوم من
الظالم.
س 8 ـ ما
هو الأصل في مناصحة ولاة الأمر هل هو الإسرار في النصيحة أم العلن وهل هناك
أولوية بمعنى البدء بالمساررة في النصيحة ثم الانتقال إلى العلانية إذا لم
تنجح المساررة ؟
الأصل أن
يكون ولي الأمر الشرعي عدلا وهذا شرط بالإجماع والعدالة حالة يكون صاحبها
قائما بأمر الله بأداء الواجبات واجتناب المحرمات في خاصة نفسه وفي أمر
العامة ومن تلك المحرمات اغتصاب الأمر الذي جعله الله شورى بين المؤمنين
ولهذا أطلق الفقهاء على كل من أخذ السلطة بالسيف بأنه من أئمة الجور حتى
وإن كان من أهل العلم والفضل والصلاح إذ الاستبداد واغتصاب السلطة ظلم
ينافي العدالة ومن كان عدلا صالحا غير معروف بالفسق والظلم ولا خوارم
المروءة لا يقع عادة منه إلا ما كان خلاف الأولى أو ما هو محل اجتهاد أو
تقصير قد يقع في خاصة نفسه ونحو ذلك وهذا الذي يناصح به سرا إن وقع منه شيء
من ذلك أما الفسق الظاهر والظلم البواح ونحوهما فإنه يخرجه من حد العدالة
أصلا ويصبح وجوده كولي أمر شرعي محل نظر وخلاف كبير بين سلف الأمة ولهذا
لما بويع يزيد خرج الحسين وأهل العراق وخرج ابن الزبير وأهل مكة وخرج
الصحابة في المدينة مع عبد الله بن حنظلة فمنهم من لم ير أصلا ولايته ومنهم
من بايعه فلم ظهر له فسقه خرج عليه كما فعل أهل المدينة يوم الحرة حتى قيل
لم يتخلف عن الخروج من الصحابة وأبنائهم إلا ابن عمر وقيل جابر وأبو سعيد
الخدري أما باقي المهاجرين والأنصار وعلماء المدينة من التابعين فقد رأوا
عدم شرعية ولايته لفسقه وعدم عدالته!
والمقصود
عدم الاستخفاف في تصور ولاية الأمر الشرعي فليس كل ذي سلطان سياسي هو
بالضرورة ولي أمر شرعي! من هنا لا يسوغ السكوت عن الظلم والفسق الظاهر بل
يجب الأمر بالمعروف والصدع بالحق إذ من لا يقبل الأمر بالمعروف ولا سماع
كلمة الحق لا يكون ولي أمر شرعي للمسلمين ولا ممن قال الله فيهم {وأطيعوا
الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} بل هو ولي أمر سياسي بحكم الأمر
الواقع لا بحكم الشارع وهذا له أحكام تفصيلية تجدها في كتاب الحرية وكتاب
التحرير .
والمقصود
أن الحديث اليوم عن ولي الأمر وعن المناصحة سرا وأنها أصل كل ذلك لا أصل له
وتنزيل للنصوص في غير محلها فالمسلمون اليوم في زمن فتنة عامة كما يقول
الفقهاء فلا إمام لهم تجب بيعته وطاعته كما سئل الإمام أحمد عن حديث (من
مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية) فقال أحمد (أتدري من ذاك؟ ذاك الذي
يقول المسلمون كلهم هذا هو الإمام) وقد أخذ بذلك بقول ابن عمر (لا أبذل
بيعتي في فرقة ولا أمنعها من جماعة) وأخذ بما جاء في حديث حذيفة الصحيح
(الزم جماعة المسلمين وإمامهم. قال فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال
فاعتزل تلك الفرق كلها)!
وإذا تقرر
ذلك فإن على المسلمين في كل بلد أن يتعاونوا على البر والتقوى والإصلاح
شعوبا وحكومات وأن يقيموا كل ما أوجب الله عليهم القيام به في حال الاجتماع
وألا يتخلوا عن واجباتهم ومسئولياتهم بدعوى عدم وجود الخليفة والخلافة
والإمام العام بل كل ما وجب في حال الاجتماع والخلافة الجامعة فهو واجب في
حال الافتراق كالأمر بالمعروف والجهاد في سبيل الله والسعي بإقامة العدل
والقسط ودفع الظلم وتحرير الشعوب من الاستبداد لتشارك في الأمر والإصلاح
بحسب الإمكان إلى غير ذلك من فروض الكفاية ولا يترك شيء من ذلك بدعوى عدم
شرعية السلطة بل إن أمكن تغييرها وإصلاحها فهذا هو المطلوب وإن لم يمكن
تغييرها لقوتها أو لحماية العدو الخارجي لها أو لقبول الناس بها ورضاهم
عنها فالتعامل يكون معها حينئذ فقط على البر والتقوى وعلى المعروف كسلطة
سياسية قهرية أو سلطة عرفية لا كسلطة شرعية دينية واجبة طاعتها وجوبا شرعيا
ولهذا فلو جاء من يريد إسقاط أو تغيير تلك السلطة ليحقق الإصلاح والعدل
والأمن فإنه يجب على الأمة نصرته ويحرم شرعا القتال مع تلك السلطة دفاعا
عنها لعدم شرعيتها أصلا إلا في حال واحدة وفيها خلاف فقهي معروف وهو فيما
إذا كان من يريد تغيير تلك السلطة أسوء منها وأظلم وأشد خطرا على الأمة فمن
الفقهاء من رأى جواز القتال مع السلطة الأولى لدفع الضرر الأشد ومن
الفقهاء من يرى اعتزال الطائفتين وهذا بخلاف السلطة الشرعية العادلة فإنه
يجب القتال معها في كل الأحوال دفاعا عنها وضد من أراد إسقاطها.
س 9 ـ
انطلاقا من الخطاب الشرعي ما هي أبرز حظوظ التعاون بين التيار الإسلامي
والتيارات المخالفة الأخرى في سبيل بناء دولة العدل والشورى ؟
ج 9 ـ
التعاون على البر والتقوى مشروع مع كل أحد لعموم قوله تعالى {وتعاونوا على
البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} والأصل أن لا ينظر في الحكم
على المسائل إلى الأشخاص بل ينظر إلى ما أرادوا التعاون عليه فإن كان خيرا
وعدلا وإصلاحا فهو مشروع واجتماعهم عليه مشروع وإن كان الفعل ظلما أو محرما
أو باطلا أو فسادا فهو ممنوع والاجتماع عليه محرم سواء وقع التعاون فيه
بين مسلمين أو بين مسلمين وغير مسلمين ولهذا جاء في الصحيحين قول النبي صلى
الله عليه وسلم لحكيم بن حزام حين سأل عن أعمال الخير التي فعلها في
جاهليته فقال له (أسلمت على ما سلف لك من خير) وفي الحديث(إن الله لا ينظر
إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) أي على نياتكم وإرادتكم
وأفعالكم والجزاء يوم القيامة على أساس {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن
يعمل مثقال ذرة شرا يره}{ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء
يجز به}.
س 10 ـ
أليست السياسة من الفروع في أمور الدين ؟ .. إذا لماذا نرى أناسا تجعلها هي
الواجب الأول على الأمة وتلزمها أن تلتزم هذا الجانب بشكل كبير ويظهر هذا
في خطاب المهتمين بالسياسة حتى إنك تستشعر من كلامهم أن هذا الواجب الوحيد
فقط ؟ وهل محاربة الاستبداد والظلم والدعوة للشورى والعدل والمساواة داخلة
في الأمور السياسية الفرعية ؟
ج 10 ـ إن
كان المقصود بالسياسة التصرف في شئون الأمة وفق أحكام الشرع فهذا كما قال
شيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم والقرطبي والغزالي من أركان الإسلام بل لا
وجود للإسلام من دونه فالإسلام دين ودولة ولهذا كانت الخلافة نيابة عن
الأمة في القيام بتنفيذ أحكام الإسلام وأول واجبات الخليفة وأهمها الحفاظ
على الدين وإقامة أحكامه وصيانتها من الخلل ولهذا فالفرق بين دار الإسلام
ودار الكفر عند الفقهاء الشوكة والأحكام فكل دار كانت الشوكة فيها للأمة
وللمسلمين والأحكام الظاهرة هي أحكام الإسلام فهي دار إسلام وإن كانت
الشوكة لغير المسلمين أو كانت الأحكام الظاهرة ليست أحكام الإسلام فليست
بدار إسلام ثم تختلف أحكامها باختلاف أحوالها بحسب ما إذا كانت دار إسلام
ثم احتلها العدو أم لم تكن أصلا دار إسلام ..الخ
والمقصود
بأن كلمة سياسة اليوم تختلف في مدلولها عن كلمة سياسة عند الفقهاء قديما
فهم يطلقونها قديما على كل حكم يكون الناس معه أقرب للصلاح وإن لم ينزل به
كتاب ولا سنة أما اليوم فالسياسة تعني كل موضوع الدولة والسلطة والدستور
والقانون الذي يحتكم إليه وإدارة شئون الأمة العامة كلها فمثل هذا يدخل فيه
ما هو من أصول الدين وقطعياته وأصول التوحيد كالحكم بما أنزل الله وما هو
من أصول الأحكام وقطعياتها كالخلافة وأحكامها التي أجمعت عليها الأمة وما
هو من فروع الدين كتفاصيل الأحكام الفرعية التي جاءت في باب سياسة الرعية
فمن ادعى بأن هذه الأمور كلها ليست من أركان الدين فهو إما جاهل بالإسلام
وحقيقته وإما جاهل بالسياسة وحقيقتها!
س11 ـ ألا
ترون أن المؤسسة الدينية التقليدية في السعودية وأسلوبها الأبوي السلطوي
المتخلف ساهم في نشوء جيل ثائر على فئتهم .. ربّما منفصل عن قيمه وثوابته
بمطالبته بتحكيّم العقل حتى في المسلمات اليقينية ؟! هنا، كيف تتم معالجة
الوضع السابق، وتوجيه البوصلة للوجهة الصحيحة..؟ بعيداً عن التخلف والفلتان
الفكري..!
ج 11 ـ
العلماء ليسوا سواء فمنهم من هم من ورثة الأنبياء ممن قام بما أوجب الله
عليه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يخاف في الله لومة لائم فهو من
العلماء الربانيين وممن ورث حظا من ميراث النبوة ومنهم من داهن في دين
الله فهو ممن أضلهم الله على علم كأحبار بني إسرائيل ممن نعى عليهم القرآن
كتمهم للحق وأكلهم السحت وعداوتهم لمن يأمرون بالقسط من الناس وممن يصدون
عن سبيل الله يبغونها عوجا وممن يحرفون الكلم عن مواضعه وممن يركنون إلى
الذين ظلموا ..الخ
فهؤلاء
علماء السوء وعبد الطاغوت وهم مع أوليائهم وطواغيتهم الذين يوالونهم
ويحبونهم ويعادون من يعادونه وفيهم يصدق قوله تعالى {والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات} ويصدق فيهم {اتخذوا أحبارهم
ورهبانهم أربابا من دون الله}
ومنهم من
هو دون ذلك في الشر كعلماء الدنيا ممن همه أن يقال له عالم ولهذا جاء في
الحديث (ثلاثة تسجر بهم النار وعالم أراد أن يقال له عالم وقد قيل..) .
وقد ضرب
الله فيهم الأمثال في كتابه وضربه النبي صلى الله عليه وسلم ولا حجة لأحد
مع الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة فالإسلام ما كان عليه الصحابة
رضي الله عنهم قبل الفتن والحق ما عرفوه وأجمعوا عليه وما لم يكن آنذاك دين
فليس هو اليوم بدين ولهذا جاء في الحديث(من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم
ومحدثات الأمور فكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) فكل ما لا يعرفه الخلفاء
الراشدون وكل ما خالف هديهم وسنتهم فهو من المحدثات التي يجب ردها ابتداء
من الملك العضوض والملك الجبري وانتهاء بالطاغوتية والوثنية التي تحكم واقع
كثير من دول العالم الإسلامي!
س 12 ـ ما
هو رأيكم بمؤسسات الدين الرسمية في الدول العربية ؟ هل أدت دورها المطلوب ؟
ومن تعتقد برأيك أنه السبب الرئيسي في تخلف الأمة .. الشعوب .. الحكومات
.. رجالات الدين والمثقفين ؟
ج 12 ـ بلا
شك الجميع مسئولون عن تخلف الأمة وإن تفاوتت درجات المسئولية فالشعوب فرطت
في حقها في اختيار الحكومات التي تمثلها وأنظمة الحكم التي تعبر عن
إرادتها وهويتها ودينها والحكومات فرطت في تطوير شعوبها وتحقيق العدل
والتنمية والإصلاح المنشود والمؤسسات الدينية الرسمية هي في الواقع مؤسسات
حكومية ونجحت الحكومات في توظيفها في خدمة سياساتها وإضفاء الشرعية على
وجودها مع استبدادها وفسادها!
وبلا شك
فإن دور من يمثلون المؤسسات الدينية هو الأشد خطرا في تضليل الرأي العام
وتكريس الظلم والاستبداد بإضفائهم الشرعية على هذه النظم السياسية الفاسدة
وتحريم أي معارضة لها بدعوى الخروج على ولي الأمر وهو ما حال بين الأمة
وحقوقها باسم الدين الذي إنما جاء في الأصل لتحريرها والعدل بينها فصار على
يد هؤلاء المبطلين هو السبب في تخلف الأمة وشيوع الظلم فيها ليتحقق فيهم
الحديث الصحيح (أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون) وقال (لتتبعن سنن من
كان قبلكم اليهود والنصارى) فكما صار بعض علمائهم أربابا من دون الله
وأولياء للطاغوت وآكلين للسحت ودعاة لقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس فقد
صار في علماء هذه الأمة كأولئك حذو القذة بالقذة!
س 13 ـ إلى
أيِّ حدٍّّ تؤمنون بهذه المقولة: الشعوب العظيمة فاسقة الأفكار متدينة
الأفعال.. والشعوب المتخلفة فاسقة الأفعال متدينة الأفكار ؟ !
ج13 ـ لا
أعرف المقولة ولا أظن أنها صحيحة فالشعوب العظيمة في التاريخ هي الشعوب
التي غيرت مجرى حياة الإنسانية وهي عادة ما تؤمن برسالة ومهمة في الحياة
وتكون عادة أكثر تدينا بهذه الرسالة على اختلاف مظاهر تدينها وتاريخ
المسلمين أصدق شاهد بل الشعب الأمريكي اليوم من أكثر الشعوب الغربية تدينا
وكذا حكوماته كما أكد ذلك الرئيس السابق ريتشارد نيكسون في كتابه ما بعد
السلام الذي أكد أن سر تفوق أمريكا هو (أن أمريكا تستظل تحت خيمة الرب)
وتأكيده على ضرورة تعزيز قيم الشعب الأمريكي الروحية لأنها الضمانة لديمومة
قوته وعظمته!
س 14 ـ
يثير بعض النقاد مقولة مفادها أن الدكتور حاكم هدم الخطاب التقليدي الفاسد ,
ولكنه لم يؤّصل لخطاب شرعي جديد يستطيع بواسطته أن يرسم ملامح دولة
إسلامية متقدمة ؟ ما تعليقك ؟
ج 14 ـ ليس
للدكتور حاكم خطاب حتى يحكم له أو عليه ونحن أمة لم نأت من فراغ لنبحث عن
الحل عند هذا المفكر أو ذاك بل نحن أمة عظيمة هي النبأ العظيم كما قال
تعالى {عم يتساءلون عن النبأ العظيم} فالقرآن والإسلام والنبي صلى الله
عليه وسلم وهو الرحمة للعالمين وأمته الشهيدة على الأمم كل ذلك النبأ
العظيم وما زالت إلى اليوم هي النبأ العظيم حتى في حال ضعفها!
فما ذكرته
في كتبي وما أدعو إليه وأبشر به هو إعادة تذكير بالخطاب القرآني والنبوي
والراشدي الذي ساد به العرب المسلمون العالم كله ثم سادت به كل أمة مسلمة
أخذت به بقدر ما أخذت حتى كان الترك والخلافة العثمانية آخر الأمم
الإسلامية التي ظهرت على العالم مدة خمسة قرون قدمت فيه للعالم من النظم
والقوانين والمعارف والعلوم ما أسهم ويسهم إلى اليوم في الحضارة المعاصرة
وفي القوانين والعلاقات الدولية التي ورثها العالم من الخلافة العثمانية
وكذا الحريات الدينية وحقوق الأقليات التي لم تعرفها أوربا العنصرية
المتطرفة قوميا ودينيا إلا في العصر الحديث!
وأزمة
الأمة اليوم هي أزمة خطاب سياسي فالتطور والتقدم والتنمية في جميع المجالات
لا يمكن أن تتحقق في ظل أنظمة حكم تفتقد كل مقومات وشروط السلطة الناجحة
ويستحيل حدوث تطور في ظل فساد سياسي ومالي وإداري على النحو الذي يعيشه
العالم العربي مع وجود كل إمكانات النهضة كالثروة البشرية والمادية
والجغرافيا ..الخ
ولا أدل
على ذلك من أن كل شعوب العالم تطورت ونهضت بعد قيام سلطة ذات مشروع سياسي
وكفاءة سياسية على اختلاف الأيديولوجيات فقد كانت روسيا بلدا أوربيا
إقطاعيا متخلفا فما إن جاءت الثورة البلشفية سنة 1917 حتى غدت روسيا بعد
نصف قرن أقوى دولة في العالم وكذا الصين بعد ثورتها وتغير نظامها الإقطاعي
الفاسد فلم يمض على ذلك أقل من نصف قرن حتى صارت من أكثر الدول نموا وتطورا
وكذا إيران بعد الثورة وتركيا بعد تغير السلطة سلميا ووصول حزب العدالة
والتنمية فقد استطاعت في أقل من عقد من الزمان أن تصبح من أقوى الدول اليوم
في الشرق الإسلامي الأوسط اقتصاديا وعسكريا وسياسيا وكذا ماليزيا
وأندونيسيا في الشرق الأقصى..الخ
والمقصود
أن ملامح الدولة الإسلامية المتقدمة ليس هو المشكلة فالتقدم الصناعي
والتكلونوجي وتحقيق التنمية والنهضة يستطيع تحقيقه أي نظام حكم صالح في
فترة قصيرة مهما كانت عقيدته ومذهبه السياسي وإنما أزمتنا في العالم
الإسلامي هو تحديد نظام الحكم الصالح في نظر الإسلام وما هي طبيعته وأصوله
وقواعده الذي يعبر عن هويته وخصوصيته ويحل مشكلة الهوية والأزمة التي
تعيشها الأمة وتستهلك طاقتها في الصراع الداخلي فإلى اليوم لم تحسم أي دولة
عربية وإسلامية مشكلة الهوية والمرجعية وتأمل قول الكاتب فرومكين في
كتابه(ولادة الشرق)حيث يقول:
(أصبح
الشرق الأوسط على ما هو عليه الآن، لأن الدول الأوربية أخذت على عاتقها أن
تعيد تشكيله من جهة، ولأن بريطانيا وفرنسا أخفقتا في ضمان استمرار الأسر
الحاكمة، والدول والنظم السياسية التي أوجدتاها بعد أن قضتا خلال الحرب
العالمية الأولى قضاء مبرما على النظام القديم في المنطقة (أي الخلافة)
وحطمتا الحكم العثماني للشرق الأوسط العربي تحطيما لا خلاص منه، ولكي تأخذ
الدولتان مكان النظام القديم أوجدتا بلدانا، وعينتا حكاما، ورسمتا حدودا،
وأدخلتا نظام دول، ولكنهما لم تقضيا على كل معارضة محلية هامة لقراراتهما،
ولا تزال إلى يومنا هذا قوى محلية ذات بأس في الشرق الأوسط غير موافقة على
هذه الترتيبات، وقد تطيح بها، إن ثمة مطالب هي أكثر صلة بالجوهر، وهذه
الخلافات لا تقتصر على الحدود فحسب، بل تطرح أيضا حق الوجود لبلدان انبثقت
عن القرارات البريطانية الفرنسية في أوائل العشرينات من القرن العشرين،
وهذه الخلافات تذهب إلى غور أعمق، وتبحث مسائل تبدو مستعصية على الحل وهي:
هل يستطيع النظام الحديث الذي ابتكرته أوربا ونقلته إلى المنطقة، ومن
مميزاته تقسيم الأرض إلى دول علمانية مستقلة أساسها مواطنية قومية؟
إن الأفكار
السياسية الأوربية ومنها الحكومة المدنية العلمانية تعد عقيدة غريبة على
منطقة أكد معظم سكانها ولمدة تربو على ألف عام إيمانهم بشريعة دينية تحكم
كل جوانب الحياة ومنها الحكومة والسياسة، لقد أقر فعلا رجال الدولة
الأوربيون في زمن الحرب العالمية الأولى بوجود المشكلة وبأهميتها، فما إن
بدأ قادة الحلفاء يخططون لضم الشرق الأوسط إلى دولهم، حتى أدركوا أن سلطة
الإسلام على المنطقة هي الخاصية الرئيسية للخريطة السياسية التي يتحتم
عليهم أن يجابهوها، وقد شن كيتنشر عام 1914م سياسة هدفها جعل الإسلام تحت
سيطرة بريطانيا فلما ظهر أن هذه السياسة لن تنجح رأى معاونو كيتنشر البديل
في رعاية ولاءات أخرى لاتحاد شعوب عربية أو لأسرة الشريف حسين أو لبلدان
كان عليها أن تخرج للوجود كالعراق، وأن تكون هذه الولاءات منافسة للوحدة
الإسلامية، والحقيقة أنهم عندما صاغوا تسوية الشرق الأوسط لما بعد الحرب،
كان هذا الهدف نصب أعينهم، بيد أن فهم المسئولين الأوربيين في ذلك الحين
للإسلام كان ضئيلا، فقد هونوا الأمور باقتناعهم أن المعارضة الإسلامية
للعصرنة لإضفاء الصبغة الأوربية كانت في طريقها للتلاشي، إن استمرارية
المقاومة المحلية لتسوية عام 1922م وللأفكار الأساسية التي قامت على
أساسها، تفسر أنه لا وجود في الشرق الأوسط للإحساس بالشرعية، وليس في
المنطقة إيمان يشارك فيه الجميع بأن الكيانات التي تسمي نفسها بلدانا
والرجال الذين يدعون أنهم حكاما لها أو لهم حق الاعتراف بهم كبلدان أو
كحكام، ولا يمكن القول بأن الذين خلفوا السلاطين العثمانيين قد نصبوا في
مناصبهم بصفة دائمة، مع أن هذا ما اعتقد الحلفاء أنهم فاعلوه بين عامي 1919
و1922م.) (ولادة الشرق ص 632 ).
ويقول
فرومكين أيضا:( إذا استمر زخم التحديات لتسوية 1922م أي لوجود الأردن
وإسرائيل،والعراق ولبنان على سبيل المثال فإننا سنرى يوما ما الشرق الأوسط
الذي عرفناه في القرن العشرين في وضع يشبه وضع أوربا في القرن الخامس
الميلادي عندما ألقى انهيار الإمبراطورية الرومانية في الغرب شعوب
الإمبراطورية في خضم أزمة حضارة لقد احتاجت أوربا إلى ألف وخمسمائة عام
لتحل أزمة هويتها الاجتماعية والسياسية بعد زوال الإمبراطورية الرومانية،
منها نحو ألف سنة لكي يستقر النظام السياسي على شكل الدولة الأمة، ونحو
خمسمائة سنة أخرى لتقرير من هي الأمم التي تملك الحق في أن تشكل دولا، وهل
يكون الولاء للسلالات الأسرية، أو للدولة القومية، أو لدول المدن؟ لقد تبين
أن موضوع أزمة الشرق الأوسط المستمرة في زمننا، هو مثيل موضوع أزمة أوربا
الغربية، وإن لم يكن بنفس العمق وطول الزمن، فكيف تستطيع شعوب متنوعة أن
تعيد تجميع نفسها لخلق هويات سياسية جديدة، بعد انهيار نظام إمبراطوري طويل
العهد اعتادت عليه؟ لقد اقترحت دول الحلفاء في مطلع العشرينيات من القرن
العشرين شكلا للمنطقة بعد زوال الدولة العثمانية، لكن السؤال الذي لا يزال
قائما:هل تقبله شعوب المنطقة؟ولذلك فإن تسوية 1922م لا تخص الماضي،بل هي في
قلب الحروب والنزاعات والسياسات الراهنة في الشرق الأوسط).
فانظر كيف
حدد وشخص هذا الكاتب الغربي مشكلة العالم العربي والإسلامي بفهم دقيق عميق
لا يدركه المفكرون والسياسيون الإسلاميون والعلمانيون على حد سواء!!
فما حاولت
طرحه في كتاب الحرية وكتاب التحرير هو الخطاب الراشدي الذي أراه كافيا في
أن يكون هو مشروع المستقبل للأمة والكفيل بتحقيق الحرية والعدالة لشعوبها
وحماية هويتها وخصوصيتها وكما في الحديث (تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن
تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي)!
س15 ـ كيف يرى الدكتور حاكم لحاولات أسلمة الديمقراطية بحجه أن غالب مبادئ الديمقراطية موجودة في الإسلام ؟
ج 15 ـ إذا
كانت الأمة مسلوبة الإرادة كما هي اليوم وتحت نفوذ الاستبداد والاستعمار
ولا يمكنها إقامة حكم الإسلام ودولته وكانت بين خيارين إما الديمقراطية وهي
حكم الشعب للشعب وسيادة النظام وتحقق العدل والمساواة بين الناس أو
الدكتاتورية بأي شكل كانت تلك الدكتاتورية عسكرية أو ملكية أو حزبية فلا شك
بأن الديمقراطية خير من الدكتاتورية والعدل خير من الظلم والحرية خير من
الاستبداد واحترام حقوق الإنسان خير من سفك الدم الحرام وانتهاك الأعراض
وسجن الآلاف في السجون بلا تهمة كما هو حال الأنظمة في العالم العربي اليوم
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يهاجروا إلى الحبشة لأن
النجاشي لا يظلم عنده أحد! فكان وجود العدل حتى في بلد الشرك والتثليث
كالحبشة خيرا من الظلم والاضطهاد في مكة والبلد الحرام!!
وانظر كلام
الشيخ السعدي في تفسيره عند قوله {ولولا رهطك لرجمناك} وكيف استدل بهذه
الآية على مشروعية أن يدعم المسلمون في الدول غير الإسلامية الأنظمة
الجمهورية هناك لما يتحقق فيها من عدل ومساواة وحرية.
فإذا
اختارت الأمة المغلوبة هذا الطريق المتاح أمامها وهو الديمقراطية فلا يسوغ
شرعا رفضه لتظل تحت حكم الطاغوت والدكتاتور الذي يسومها سوء العذاب وكذا لا
يسوغ لدعاة الإسلام أن يبشروا بالديمقراطية مهما كانت خيرا من الدكتاتورية
ويتركوا الدعوة إلى الإسلام القادر على أن يكون هو الحل وهو كذلك لو
عرفناه حق معرفته وإنما لم طمست معالم الخطاب الراشدي وطال الأمد على
الخطاب المؤول نبذه بعض المخلصين الذين رأوا أنه سبب ضعف الأمة وسقوطها
وتمسك به بعض المخلصين الذين رأوا أن البديل سيكون الديمقراطية الغربية
فصاروا يدافعون عن واقع متخلف صنعه الاستعمار دون أن يغيروه لصالح الإسلام
فصارت الأمة هي الضحية ولو عرفوا الخطاب الراشدي وأن فيه من الهدايات
والسنن وأصول سياسة الأمة بالعدل ما لا يجعلنا نبحث عن غيره لما اختلف
الفريقان وهذا ما قصدت بيانه في الكتابين.
وبلا شك
فإن في الديمقراطية من الحق ما يوافق ما جاء به الإسلام ويحرم رد مثل ذلك
أو رفضه كالعدل بين الناس في الحكم وتحريم التعذيب واحترام كرامة الإنسان
وحق الشعوب في اختيار من يحكمها برضاها والرقابة على السلطة وعلى الثروة
وتكافؤ الفرص للجميع وتطبيق القانون على الجميع ..الخ
وفيها أيضا
ما قد يخالف ما جاء به الإسلام كجعل حق التشريع المطلق للشعب وإنما جعل
الإسلام حق التشريع المطلق لله وحده بما شرعه في كتابه وفي سنة رسوله صلى
الله عليه وسلم وللأمة حق التشريع المقيد في إطار قواعد الشريعة وأصولها
وبما يحقق مصالح الأمة.
فملامح
النظام الإسلامي المستقبلي بشر به النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (ثم تعود
خلافة على منهاج النبوة) فإن كان ما ذكرته في الكتابين يعبر عن أصول
الخطاب السياسي الراشدي فهذا هو النظام السياسي الإسلامي الذي يحرم على
الأمة تركه أو الإعراض عنه ولا يحتاج إلا إلى تنظيم سياسي يؤمن به ويعمل
على تحويله إلى واقع سياسي يحكم الأمة من جديد وإن كان ما ذكرته لا يعبر عن
تلك الأصول فالواجب البحث عنها وبعثها من جديد كما في الحديث (عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ومن جاءنا بخير مما ذكرناه أخذنا به
ونصرناه فالحق أحق أن يتبع.
س 16 ـ
حركات الإصلاح والتغيير الداخلية دائماً ما يحكم عليها بالفشل إن لم تكن
مصحوبة بمتغيرات خارجية تدعمها وتدفع بها للمضي قدماً .. برأيك ما هي أبرز
المتغيرات الخارجية التي قد تكون داعماً لهذه الإصلاحات الداخلية ؟
ج 16 ـ لا
شك بأن للمتغيرات الدولية تأثيرا كبيرا على واقع المنطقة ودولها بل لعل
المؤثر الرئيس هو القوى الدولية في كل شئون المنطقة الداخلية ولهذا فأمام
قوى الإصلاح الداخلي تحديات كبرى تتمثل في كيف يمكنها أن تدفع باتجاه
الإصلاح والتغيير دون أن تصطدم بشكل مباشر مع القوى الدولية المتحكمة في
المنطقة ومفاصلها؟ وكيف لها أن تستثمر الظروف والمتغيرات الدولية لصالح
التغيير في الداخل؟ وكيف تطمئن الخارج بأن مصالحه هي في احترام إرادة شعوب
المنطقة وليس مع حكوماته التي يحميها على حساب استقلال المنطقة وحرية
شعوبها؟ ويجب أن تكون حركة الإصلاح حركة أمة مرتبطة بها تترعرع في أحضانها
وتعيش بؤسها وأحلامها وتنطلق في تحقيق مشروعها بعيدا عن التورط مع القوى
الاستعمارية ودون أيضا استعدائها فالعمل السياسي السلمي والثوري ضد
الاستبداد الداخلي يختلف بطبيعته عن عمل المقاومة المسلحة في حروب التحرير
ضد الاحتلال الأجنبي ومن نظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة
حين حالف أقواما وجاهد آخرين وسالم وعاهد وأمن وطمأن يجد ما يثير الدهشة
والإعجاب وهو القدوة والأسوة صلى الله عليه وسلم في كل شأن.
وعلى كل
فالقوى الدولية لن تكون مشكلة فمتى عادت الأمة إلى وعيها ودينها ورشدها
وعزيمتها فهي قادرة على إحداث التغيير وفرض إرادتها وإقامة حكوماتها
الراشدة تمهيدا لعودة وحدتها وخلافتها الراشدة ولن يستطيع العالم حينئذ إلا
احترام إرادتها والتفاهم معها لحفظ مصالحه عندها.
س 17 ـ إذا
كان الإنسان يحب أن يطور نفسه فكريا وسياسيا فما الذي تنصحنا به وما الكتب
التي تعتقد أنها هي اللبنات الأولى للمفكر الواعي نتمنى منكم إتحافنا بشئ
منها وتزويدنا ببعض العناوين من مؤلفاتكم وكيف تقيم مشاركة الإسلاميين في
مجلس الأمة الكويتي من ناحية الفعالية والنهضة ؟
ج 17 ـ
المكتبة الإسلامية زاخرة بالكتب الفكرية والسياسية وهي أكثر من أن تحصى
وإنما أستطيع القول بأهمية قراءة ما كتبه جمال الدين الأفغاني في (خطراته)
وعبد الرحمن الكواكبي في (طبائع الاستبداد) و(أم القرى) وشيخ الإسلام مصطفى
صبري في (موقف العقل والدين والعالم) ورشيد رضا في مجلة المنار والمودودي
وحسن البنا وشكيب أرسلان وسيد قطب ومالك بن نبي ومحمد قطب ومحمد الغزالي
وأديب العربية مصطفى الرافعي (تحت راية القرآن) ومحمود شاكر خاصة رسالة نحو
ثقافتنا المعاصرة (وأباطيل وأسمار) وكذا كتب المفكر الإيراني علي شريعتي
وأحمد الكاتب وغيرهم من المفكرين المعاصرين.
وأما
مشاركة الإسلاميين في مجلس الأمة الكويتي فهي غير مؤثرة لأن الحركة
الإسلامية باختلاف تياراتها في الكويت كما في المنطقة عموما لا تحمل مشروعا
سياسيا للتغيير بل هي ترى مشروعية الوضع القائم ولا ترى نفسها بديلا عنه
ولهذا تعيش في كنفه وتدافع عنه وتتخندق بخندقه وإن كانت تناكفه أحيانا
لتثبت خصوصيتها واستقلالها ليس إلا هذا مع تحالفها الوطيد معه منذ نصف قرن
تقريبا ومن هنا لا يمكننا أن نتحدث عن حركة إسلامية بقدر ما هي جماعات
دعوية تشتغل بالشأن السياسي كإثبات وجود ومن هنا كانت هذه الجماعات أول من
تحفظ على دعوة حزب الأمة لإقرار التعددية والتداول السلمي للحكومة المنتخبة
ليشارك الشعب الكويتي في اختيار حكومته بدلا من الحكومات المعينة منذ
الاستقلال الصوري إلى اليوم! ولعله لا يوجد في العالم الإسلامي كله حركة
إسلامية ترفض أن يشارك الشعب في انتخاب الحكومة سوى الحركة الإسلامية في
الكويت والخليج العربي!
س 18 ـ ما هي توقعاتك للمستقبل الإسلامي , وما هي أبرز مشاريع الدكتور حاكم القادمة ؟
ج 18 ـ نحن
نؤمن بالبشارات النبوية وبعودة هذه الأمة إلى دينها وقوتها ووحدتها وعودة
خلافتها وكل المؤشرات السياسية تؤكد هذه الحقيقة فالأمة في حالة نهضة وهي
تتلمس طريقها وإنما الحلقة الأضعف اليوم هو العالم العربي الذي ظل تحت نفوذ
الاحتلال منذ الحرب العالمية الأولى إلى اليوم وإن تفاوتت مستويات نفوذه
واختلفت أشكاله وصوره وقد كادت المنطقة تنعتق إبان الحرب الباردة غير أنه
سرعان ما عاد الاستعمار بأوضح أشكاله وبالاحتلال العسكري المباشر كما جرى
في العراق ورضي الاستعمار من باقي دول المنطقة بالرضوخ السلمي لمشروعه
وقواعده العسكرية وتم توظيف دول المنطقة في تنفيذ سياساته ومع ذلك فكل
الدراسات تؤكد أن العالم العربي سيشهد تغيرات جذرية كبرى خلال العقدين
القادمين وستكون لصالح الإسلام ولصالح الأمة بإذن الله تعالى.
وأما
المشاريع الكتابية فهناك كتاب (الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة
العربية ـ عبيد بلا أغلال) وهو جاهز وإنما ينتظر الفرصة المناسبة لطباعته
وهو يتحدث عن الواقع السياسي في المنطقة وكيف تشكل من ألفه إلى يائه وفق
مشروع استعماري صليبي ولازال إلى اليوم قائما بدوره الوظيفي المنوط به!
وكتاب عن
(الخلافة الراشدة أصولها وعودتها) وكتاب (جناية أوزون ـ عندما يتحدث
الجنون) وهو جاهز للطبع الآن بإذن الله وهو كتاب يناقش ما كتبه زكريا أوزون
عن البخاري وما كتبه في كتبه الأخرى التي تأتي في سياق الحملة الاستعمارية
على المنطقة لفتحها أمام الثقافة الغربية كما فتحت عسكريا من خلال توظيف
الأقلام المأجورة للتشكيك في الإسلام والقرآن والسنة ومصادرها وهي حملات
طبيعية دائما ما تتواكب مع أي غزو عسكري كما فعلت بريطانيا وفرنسا وروسيا
من قبل وقد أدركت أمريكا حاجتها لغزو المنطقة ثقافيا لتكون الشعوب أكثر
قابلية لوجودها العسكري وتجنيد من يمكن تجنيده من الكتاب والمثقفين ومراكز
التنوير والتزوير لخدمة مشروعها الاستعماري!
س 19 ـ كلمة أخيرة ؟
ج 19 ـ
أشكر لمجلة رؤية هذا اللقاء وأسأل الله للقائمين عليها التوفيق والنجاح
وأوصي الأخوة المثقفين خاصة في منطقة الخليج العربي إلى تجاوز حالة الترف
المعرفي والبدء بالعمل كل في مجاله في المشاركة بالإصلاح فالشعوب هي من
يصنع الحاضر والمستقبل إذا اكتشفت ذاتها وهويتها ومشروعها وناضلت كما ناضلت
الأمم الأخرى من حولنا لتحقيق حياة أفضل ومستقبل أفضل ولن يتحقق ذلك ما لم
يقم المثقفون بدورهم في النضال وقيادة الأمة.