سوانح الفكر
نداء الأطلال
بقلم: حاكم المطيري
المشكاة ـ الوطن
3/3/1997
ها
قد سنحت سانحة، وعرضت لي عارضة، صرفتني عن متابعة الرد على ذلك السفسطائي العربي،
فأضعفت هذه السانحة قدرات العقل الفكرية حيث يخاطب العقل العقول، واستثارت أحاسيس
الوجدان العاطفية ليخاطب القلب القلوب، فكنت وذلك السفسطائي كالصياد الذي جمع قواه،
وهوى بعصاه ليقتل حية، فعرضت له ورقاء مفجوعة ترفرف بجناحها تبحث عن صغارها فرق
لها قلبه، ودمعت منها عينه، وسقطت عصاه من يده، لتنجو بعد ذلك الحية فقد شملتها الرحمة!
وإليكم
هذه السانحة: صليت جمعة منتصف رمضان مع فضيلة الشيخ عبد الرحمن بن خالق في مسجد
الهاجري رحمه الله في منطقة الجابرية، وكانت خطبته عن (التقوى)، وما سمعت الشيخ قط
يستدل بالقرآن إلا تذكرت الإمام مالكا رحمه الله فقد كان من أقدر الناس على
الاستدلال وأسرعهم انتزاعا للآيات والشواهد القرآنية، وما رأيت أحداً يجاري الشيخ
في هذا الميدان وكيف لا يكون كذلك وشيخه المفسر العلامة محمد الأمين الشنقيطي،
وعنه أخذ التفسير؟ فلما قضيت الصلاة جلس الشيخ كعادته للإجابة عن أسئلة المحاضرين،
فلما قام وانتشر الناس، سلمت عليه ودار بيننا حديث وركبنا سيارته وأخذنا نتجول ساعة،
وكان يوم غيم ومطر، فما شعرت إلا ونحن أمام أحد المنازل في منطقة الجابرية، فأشار
الشيخ بيده إلى حديقة المنزل -بعد أن تأملها بعض دقائق- فقال بصوت هادئ حزين:
(هذه
الأشجار غرسها ورعاها ابني محمد -رحمه الله-).
وأخذ
الشيخ يعدد عليّ الشجيرات التي غرسها ابنه محمد -الذي توفي صغيرًا في حادثة سيارة أيام
الغزو العراقي- واحدة بعد أخرى، ثم قال: كنت أسكن هنا مدة ثماني سنين إلى أيام الغزو،
وما زلت أرتاح عند رؤيته، وأحنّ إليه، وأمر عليه كالأطلال.
فأردت
أن أسليه أو أواسيه؛ فما قدرت على الكلام، فلما رآني صامتًا لا أحيد جوابا أراد أن
ينسيني هذا الموقف فابتسم ابتسامته الرزينة المعهودة، غير أن الموقف كان أكبر في
نفسي من أن يزول أثره بهذه الابتسامة الحزينة، فقد كان موقفا مؤثرا مؤلما، ويعلم
الله ما رأيت الشيخ يذكر شيئا من أمور الدنيا قط إلا هذه المرة. وإذا كان الشيخ قد
رجع إلى داره في ذلك اليوم دامع العين فقد رجعت أنا خافق القلب لم تهدأ جوانحي
ووجداني إلا بعد أن بكيت شعراً يعبر عن ذلك الموقف حيث تم اللقاء ودار الحوار
بيننا وبين تلك الشجيرات وقد جعلت كل مقطع من القصيدة يعبر عن بعض أحداث الموقف:
سقى
الله الشجيرات اللواتي
لها في النفس أغلى الذكرياتِ
سقاها
الله ما دامت عيــون
بواكي أو ثـــغـور ضاحكــاتِ
شجيرات
لها في القــلب مثوى
بقــايا من حيــاتي مورقــاتِ
سقاها
الله وسـمــيا كريما
يعــاود بالــعشــي وبالغــداةِ
وددت
بأن أساقيها دموعي
إذا كفت عيــون الواكــفــاتِ
وقــفـت
بها أناجيــــها لعلي
أرى فيها السنين الماضيــاتِ
رعى
الله الشجيرات اللواتي
تذكرنا الأحبـــة في الحيــــاةِ
عجبت
لها أتضحك أن رأتنا
ونبكي نحن من رؤيا النباتِ
وكم
فرحت ولو نطقت لقالت
محمد أين عــهد الســالفاتِ
تظن
محــمــدا فيـــنا ولما
تصل أنبــاؤه للبــاســقــاتِ
تظن
بأن فينا من سقاها
وأودعــهــا بأم الكــــائناتِ
وهــــذبها
وشـــذبها لتحــيا
يفوح أريجـها في الزهراتِ
ألم
تعــلم بأنا في حـــنــيـن
له من سبــعــة منـذ الوفـاةِ
دعـــاه
داعـي الرحمن فينا
وكــل بعـــده الرحمـن آتي
فلو
كان البـكـــاء يرد ميتا
لأبكينا الجبــــال الراسيـاتِ
فصبرا
إن وعـــد الله حق
فإن الصــبر خير الباقياتِ
فدتك
النفس ابنك كان حرا
يريد لك الشــفــاعة للنجـاةِ
إذا
ما الابن سارع في قدوم
ليشفع كان ابن المكـرماتِ
كريم
من كـــريم من كـــرام
وابن المؤمـنــات القانتاتِ
فإن
يك غرســه أشجار ورد
فـغــرس أبيـه آلاف الهداةِ
فكم
ربّى من الأجيــــال حتى
غـدت آثاره في المعجزاتِ
وكم
يعلو المنـابر في خشوع
وفي المحراب يتلو البيناتِ
إذا
ما فـــسـر القـــرآن يوما
أتى في قــــوله بالبـــاهـراتِ
إذا
اختلفت على الناس الفتاوى
فتاوى الشيخ تبدو واضحاتِ
إذا
اشتبهت وجوه الناس يوما
فسيما وجهه نور الصلاةِ
عفيــف
صـــــادق بـر كـريـــم
جريء القلب عند النائباتِ
إذا
اشتبهت أمــــور في أمور
فكــل شـــئونه في الصــالحـاتِ
حياتك
في ذرا العليـــاء دوما
أعيــــذك من عيـــون
العادياتِ
فلو
جاز الرثا والمــرء حـي
رثيتك في الحياة وفي المـماتِ
رضيت
من الغنيـمة فيك قسما
وخذ عهد الثــقـات من الثقاتِ
إذا
مرجت عـهـــود بعد عقد
عليك بعـهـد أبنــــاء السـراةِ
لك
المجد التليد ودمت فينا
إمام الخيــر عنـــوان الثباتِ