الإيضاح لما أشكل على الأستاذ الشراح
بخصوص موقف ابن تيمية من الصوفية
بقلم د / حاكم المطيري
الأمين العام للحركة السلفية
صحيفة الأنباء 9/7/2004
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وأصحابه أجمعين أما بعد...
فقد اطلعت على المقابلة التي أجرتها صحيفة الأنباء بتاريخ 17/5/2004 مع الأستاذ الفاضل يوسف الشراح فرأيت فيها من الأخطاء العقائدية التي نسبها إلى شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ما تقتضي النصيحة والأمانة العلمية بيانه، لخطورة الموضوع إذ أنه في أصل الدين وأجل أركانه ألا وهو توحيد الله وإفراده وحده بالعبودية وترك عبادة كل ما سواه وإسلام الوجه له وحده بالإسلام إليه الذي هو ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين، وهو الحنيفية السمحة التي بعث الله بها محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العالمين، ولا أظن هذه الأخطاء إلا سبق لسان أو قلم من الأستاذ الفاضل أو أنه لم يحرر الأجوبة تحريرا علميا فعسى أن يراجع الأستاذ الفاضل هذه المسائل فهو من المشهود لهم بالعلم والفقه وهذا بيان مختصر للأخطاء الواردة في المقابلة:
أولا : جاء في مقدمة المقابلة (إن التصوف وسلوك الصوفيين أقرب الطرق وأوسعها إلى الله تعالى) ؟!
أقول: وهذا الإطلاق في هذه العبارة خطأ بلا شك، بل أقرب الطرق إلى الله وأوسعها والطريق التي لا طريق إلى الله سواها هي طريق النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) وهو الإسلام الذي لا يقبل الله من الخلق دينا سواه كما قال تعالى (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين) وقال تعالى (إن الدين عند الله الإسلام) وقد كمل الدين وتمت النعمة وقامت الحجة على الخلق كافة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يمت حتى نزل قوله تعالى (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من اختلاف السبل وافتراقها فقال (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) فلم يقل عليكم بطريقة الفقهاء أو طريقة الصوفية أو طريقة أهل الحديث وقال أيضا(تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك) وقال (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا كتاب الله وسنتي) وفي رواية (كتاب الله وعترتي) فالطريق إلى الله الذي لا طريق سواه هو طريق النبي صلى الله عليه وسلم وأعلم الخلق به وبطريقه وأشدهم اتباعا له هم الخلفاء الراشدون وآل بيته الطاهرون والصحابة المهديون الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه ووعدهم جنات تجري من تحتها الأنهار وذكرهم في التوراة والإنجيل وبشر الأمم بظهورهم فقال سبحانه في شأنهم (كنتم خير أمة أخرجت للناس) وجعلهم أمة وسطا وشهداء على العالمين كما في قوله تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا) ووعدهم الاستخلاف في الأرض والنصر والظهور كما قال تعالى (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا) واشترط عليهم (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) فلما عبدوه وحده لا شريك له واتبعوا رسوله وعزروه ووقروه ونصروه نصرهم كما وعدهم، فلم يمت آخر صحابي حتى أورثهم الله الأرض من حدود الصين شرقا إلى الأندلس غربا، فتحقق موعوده لهم لما وفوا بعهودهم معه، وتحقق الشرط لما تحقق المشروط، فدل ذلك على أن طريقهم هو طريق الله، وأن هديهم هو هدي الإسلام وأن من جاء بعدهم ليس له إلا اتباعهم.
فلا يسوغ أبدا في دين الله أن يقال بأن أقرب الطرق وأوسعها طريق الصوفية أو طريق الفقهاء أو هذا المذهب أو ذاك وليس لأحد أن يدعوا أحدا إلى غير طريق القرآن والسنة والاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم واتباع هديه كما قال تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) وكل وعبادة وسلوك واعتقاد لم يكن عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرفه خلفاؤه وآل بيته وأصحابه فهو محدث يجب رده كما قال صلى الله عليه وسلم (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقد أراد بعض الصحابة رضي الله عنهم أن يتبتلوا وينقطعوا للعبادة فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الجهاد في سبيل الله رهبانية هذه الأمة وقد جاء نفر منهم إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألونهن عن عبادة النبي فأخبرنهم فكأنهم تقالوها فقال أحدهم أما أنا فأقوم الليل كله ولا أنام وقال الآخر وأنا أصوم الدهر كله ولا أفطر وقال الآخر وأنا لا أتزوج النساء فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بخبرهم فقام خطيبا وقال (أما أنا فأصلي وأرقد وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) فمن امتنع عما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله من المباحات كلبس الثياب الجميلة والطيب وأكل الطعام الطيب والزواج والنوم وركوب الدابة والسعي والعمل لطلب الرزق أوترك الجهاد في سبيل الله بدعوى التصوف والزهد فقد رغب عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه أما والله إني أعلمهم بالله وأتقاهم له) وقد قال تعالى (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) وقد قال صلى الله عليه وسلم (خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم) فالواجب دعوة كل مسلم ومسلمة وكل مذهب وطائفة إلى هذا الأصل العظيم وهذا لا ينافي جواز تقليد العامة للأئمة والعلماء فيما لا يعرفونه من أمور دينهم كما قال تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) إلا إنهم لا يقلدون العالم لعصمته أو لأن طريقه أقرب الطرق إلى الله ولا لوجوب تقليد هذا العالم أو ذاك الإمام بعينه على وجه الخصوص، بل لأنه يخبرهم بحكم الله ورسوله وإلا وجب عليهم ترك قوله واتباع الكتاب والسنة وهذا الأصل أجمع عليه الأئمة وسلف الأمة وقد قال ابن تيمية في الفتاوى 11/15 (والصواب أن يعلم المسلم أن خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وخير القرون القرن الذي بعث فيهم وأن أفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد من العباد والنساك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع ومن جعل كل مجتهد أخطأ في بعض الأمور مذموما معيبا ممقوتا فهو مخطئ ضال مبتدع).
وقال أيضا في 10/430 (فمحمد صلى الله عليه وسلم أرسل إلى كل أحد فلا عقيدة إلا عقيدته ولا حقيقة إلا حقيقته ولا طريقة إلا طريقته ولا شريعة إلا شريعته ولا يصل أحد من الخلق إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته وولايته إلا بمتابعته باطنا وظاهرا في الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة في أقوال القلب وعقائده وأحوال القلب وحقائقه وأقوال اللسان والجوارح) انتهى كلامه رحمه الله تعالى .
ثانيا : جاء في المقابلة (التصوف عند ابن تيمية هو السلوك إلى الله تعالى وهذا الاسم داخل في الجملة في مسمى الصديق والولي والصالح) ؟!
وهذا خطأ فادح وفهم خاطئ وتصرف في عبارة ابن تيمية فقد قال بالنص في الفتاوى 11/70 (الفقير في عرفهم ــ أي في عرف العلماء المتأخرين ــ عبارة عن السالك إلى الله تعالى كما هو الصوفي في عرفهم أيضا ... والتحقيق أن المراد المحمود بهذين الاسمين داخل في مسمى الصديق والولي والصالح ونحو ذلك من الأسماء التي جاء بها الكتاب والسنة ...) فالمعاني المحمودة عند الصوفية هي التي تدخل في مسمى الولي والصالح لا اسم الصوفية نفسه فابن تيمية لم يعرّف الصوفي ولم يقل بأنه هو السالك إلى الله ولم يقل بأن اسم الصوفي داخل في مسمى الصديق والولي والصالح لأن اسم الصوفي ليس من الأسماء الشرعية الواردة في القرآن والسنة كالولي والصديق والصالح بل هو اسم محدث! وإنما نقل تعريف المتأخرين لمعنى الصوفي في عرفهم والفرق بينه وبين الفقير وأيهما أفضل في نظر المتأخرين ثم رد ابن تيمية على الجميع بأن المعنى المحمود في هذين اللفظين المجملين داخل في مسمى الألفاظ الشرعية المحمودة كالولي والصديق والصالح أما الاسمين ذاتهما أي اسم الصوفي والفقير فهما من الأسماء المجملة التي لا تمدح مطلقا ولا تذم مطلقا فلفظ الفقير كلفظ الغني (وفي كلا الطائفتين : المؤمن الصديق والمنافق الزنديق) كما قال ابن تيمية في نفس الصفحة ولو قرأ الأستاذ الفاضل يوسف الشراح أول الفتوى 11/5 لعرف مقصود ابن تيمية ولم يقع في هذا الخطأ فقد سئل عن لفظ الصوفية والفقراء فقال:(لفظ الصوفية لم يكن مشهورا في القرون الثلاثة وتنازعوا في المعنى الذي أضيف إليه الصوفي فقيل إنه نسبة إلى أهل الصفة وهو غلط وقيل نسبة إلى الصف المقدم بين يدي الله وهو أيضا غلط وقيل نسبة إلى الصفوة من خلق الله وهو غلط) ثم ذكر في 11/ 17 اختلاف علماء السلف وتنازعهم في ذم الصوفية ثم قال 11/27 (فالسالك طريق الفقر والتصوف والزهد والعبادة إن لم يسلك بعلم يوافق الشريعة وإلا كان ضالا عن الطريق وكان ما يفسده أكثر مما يصلحه والسالك من أهل الفقه والعلم والنظر والكلام إن لم يتابع الشريعة ويعمل بعلمه وإلا كان فاجرا ضالا عن الطريق).
وقال أيضا في الفتاوى 10/369 (وقد تكلم بهذا الاسم قوم من الأئمة كأحمد بن حنبل وأبو سليمان الدارني وغيره وأما الشافعي فالمنقول عنه ذم الصوفية وكذلك مالك فيما أظن وقد ذم طريقهم طائفة من أهل العلم ومدحه آخرون والتحقيق فيه أنه مشتمل على الممدوح والمذموم كغيره من الطريق).
فابن تيمية لم يمدح التصوف مطلقا ولا ذمه مطلقا لأن لفظه مجمل محدث ليس من الألفاظ الشرعية بل مدح المعاني المحمودة عند الصوفية لموافقتها للشريعة وذم المعاني المحدثة لمخالفتها للشريعة وهي المعاني التي بسببها ذم الإمام الشافعي والإمام أحمد الصوفية وحذروا منها، والخلاف والعداء الشديد هو بين الفقهاء وأهل الرأي والحديث والكلام من جهة ويطلق عليهم أهل الشريعة، والصوفية وأهل السلوك من الزهاد والعباد من جهة أخرى ويطلق عليهم أهل الحقيقة، وقد جاء شيخ الإسلام فصار حكما بين الطائفتين ووضح بأن عند كلا الفريقين حقا وباطلا وصوابا وخطأ وأما التصوف الفلسفي فهو شيء آخر وكلام ابن تيمية في إبطاله ونقضه معروف.
ثالثا : جاء في أسئلة المقابلة (عند بعض الصوفية ما يسمى بالأحوال والفناء والسكر فما هي وماذا تعني؟) ثم ساق الأستاذ الشراح كلاما طويلا لشيخ الإسلام ابن تيمية فيه تفصيل لمراتب الناس حين السماع وما يرد عليهم من الأحوال يفهم منه موافقة ابن تيمية لما يحدث للصوفية من أحوال في هذا الباب وهذا خطأ في الاستدلال ووضع لعبارات ابن تيمية في غير مواضعها وإنما كان ابن تيمية يتحدث في الفتاوى (11/7 ـ 9) عن عباد أهل البصرة من التابعين الذين اشتهروا بالزهد والعبادة إذا سمعوا القرآن والأحوال التي ترد عليهم حين سماعهم له كالبكاء والصعق والغشي فكان الواجب على الأستاذ أن يذكر عبارة ابن تيمية كاملة أو يشير إلى ما يوضح مراده أما إطلاق العبارة على النحو المذكور في المقابلة فإنه يوهم أن ابن تيمية يقرر هذه الأحوال مطلقا ولم يشر الأستاذ الشراح في إجابته عن هذا السؤال ولو مرة واحدة إلى أن المراد هنا هو السماع القرآني مع أنها وردت في الفتاوى تسع مرات عدا الآيات القرآنية التي أوردها ابن تيمية لبيان أحوال الناس عند سماع القرآن؟!!
ولو نظر الأستاذ الفاضل في الفهرس 36 /191 حيث جاء فيه (مراتب الناس عند سماع كلام الله ثلاثة) لعرف المراد من كلام ابن تيمية وكذا لو نظر في المجلد ذاته ص 590 ـ 591 لعلم أن كلامه في هذه الأحوال هو في حال السماع القرآني الإيماني لا السماع البدعي الشيطاني حيث قال في آخره ص 596 (فمن اتخذ الغناء والتصفيق عبادة وقربة فقد ضاهى المشركين في ذلك فينبغي التفريق بين سماع المؤمنين الذي أمر الله به ورسوله وسماع المشركين الذي نهى الله عنه ورسوله).
ولهذا قال في ص 599 عن الأحوال التي ترد على أهل هذا السماع الشركي الشيطاني (ولو ورد على الإنسان حال ـ كالبكاء والصعق والغشي ـ بسبب مشروع كسماع القرآن ونحوه سلم إليه ذلك الحال فأما إذا تكلف من الأحوال ما لم يؤمر به ـ كالسماع الشيطاني ـ فهذه الأحوال الفاسدة من كان فيها صادقا فهو مبتدع ضال من ذوي الأحوال الفاسدة الذين ضارعوا عباد المشركين في بعض أحوالهم ومن كان كاذبا فهو منافق ضال ولهذا قال الفضيل بن عياض في قوله تعالى (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) قال أخلصه وأصوبه فإن العمل إذا كان خالصا ولم يكن صوابا لم يقبل وإذا كان صوابا ولم يكن خالصا لم يقبل، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة .... فإن الذين دخلوا في السماع المبتدع ولم يكن معهم أصل شرعي شرعه الله ورسوله أورثتهم أحوالا فاسدة).
فابن تيمية يفرق بين الأحوال التي ترد على العبد عند السماع المشروع وهي أحوال صالحة والتي ترد عليه عند السماع الممنوع وهي أحوال فاسدة ولا يساوي بين الحالين ولا بين السماعين، وانظر تفصيله للمسألة في الفتاوى 11/629 ـ 633 .
رابعا: جاء في أسئلة المقابلة سؤال عن الاحتفال بالمولد والإسراء والمعراج وأنه من الدين؟
وقد جاء في إجابة الأستاذ الشراح (الاحتفال بمولد النبي صلى الله عليه وسلم والضرب بالدفوف ليسا من البدع والمنكرات عند جماهير أهل العلم كما هو معروف)! وادعى بأن ابن تيمية أيضا يرى جواز الاحتفال بالمولد ؟! وجاء في المقابلة بالخط العريض (الاحتفال بالمولد والضرب بالدفوف يعتبر من الدين) !!!
ولا يخفى خطورة مثل هذه الآراء وما فيها من جناية على العقل والدين والعلم من وجوه وهي :
1- إن الاحتفال بالمولد من البدع التي حدثت في الدولة العبيدية بإجماع المؤرخين ولم يعرفه المسلمون لا في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عصر الصحابة ولا التابعين ولا أهل القرون الثلاثة المشهود لها بالخيرية فهو أمر محدث بلا نزاع بين أهل العلم .
2- كما إنه لا يعرف للأئمة ولا لأحد من سلف الأمة قول في إباحة الاحتفال بالمولد فكيف بجماهير أهل العلم كما جاء في كلام الشراح ؟! بل أصول مذاهبهم كلهم تمنع من ذلك إذ هو من المحدثات في الدين ومن التشبه بالنصارى الذين يحتفلون بمولد المسيح وقد جاءت الأحاديث الصحيحة تحذر من البدع والمحدثات عامة ومن التشبه باليهود والنصارى خاصة.
3- إن ابن تيمية نفسه نص على كون المولد بدعة ومضاهاة للنصارى حيث قال في اقتضاء الصراط المستقيم 291 (كذلك ـ أي ما لا أصل له في الدين ـ ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيما له، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد، لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا، مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، ولو كان هذا خيرا محضا أو راجحا لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيما له منا، وهم على الخير أحرص، وإنما كمال محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته واتباع أمره وإحياء سنته باطنا وظاهرا ونشر ما بعث به والجهاد على ذلك بالقلب واليد واللسان، فإن هذه هي طريقة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان)
وهذا النص من كلام ابن تيمية يوضح مراده الذي أخطأ في فهمه الأستاذ الشراح وليس بين هذا النص الصريح والنص المجمل الذي احتج به الأستاذ سوى صفحة واحدة؟!!
فابن تيمية يقرر هنا بأن الاحتفال بالمولد بدعة لا أصل لها وأنه من مضاهاة النصارى والتشبه بهم الممنوع شرعا، وإنما قد يفعله بعض المسلمين تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم ومحبة له، فيؤجرون على محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لا على الاحتفال بالمولد ذاته فهو بدعة مكروهة عنده ولهذا قال بعد النص السابق مباشرة (إن الفاعلين لهذه البدع معيبون قد أتوا مكروها) .
4- وكلام ابن تيمية السابق إنما هو في الاحتفال والاجتماع في يوم مولده لذكره صلى الله عليه وسلم وذكر أخباره وسيرته دون أن يصحب ذلك شيء من المحرمات فإذا كان مع ذلك ضرب بالكف والدف وغناء ورقص فالأمر عند ابن تيمية أشد حيث يقول في الفتاوى 11/57 (وأما سماع المكاء والتصدية وهو الاجتماع لسماع القصائد الربانية سواء كان بكف أو بقضيب أو بدف أو بشبابة ـ الربابة ـ فهذا لم يفعله أحد من الصحابة ولا من التابعين وإنما كان السماع الذي يجتمعون عليه سماع القرآن) وقال في ص 295 (سماع الغناء والملاهي هو سماع المشركين قال الله تعالى [وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية] فكان المشركون يتخذون مثل هذه عبادة وأما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فعبادتهم ما أمرهم الله به من الصلاة والقراءة والذكر ونحو ذلك من الاجتماعات الشرعية ... وأما السماع المحدث سماع الكف والدف والقصب فلم يكن الصحابة والتابعون لهم بإحسان وسائر الأئمة الكبار من أئمة الدين يجعلون هذا طريقا إلى الله تعالى ولا يعدونه من القرب والطاعات بل يعدونه من البدع المذمومة حتى قال الشافعي خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه التغبير يصدون به الناس عن القرآن) وقال في ص 531 (أما السماعات المشتملة على الغناء والصفارات والدفوف المصلصلات فقد اتفق أئمة الدين أنها ليست من جنس القرب والطاعات .... وأما الاستماع إلى القصائد الملحنة والاجتماع عليها فأكابر الشيوخ ـ أي من الصوفية ـ لم يحضروا هذا السماع كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وقد حضره طائفة منهم ثم تابوا منه ورجعوا عنه، والذين حضروا السماع المحدث الذي جعله الشافعي من إحداث الزنادقة لم يكونوا يجتمعون مع المردان ولا مع المصلصلات وشبابات، وكانت أشعارهم مزهدات مرققات، فأما السماع المشتمل على منكرات الدين فمن عده من القربات إلى الله استتيب فإن تاب وإلا قتل .... أما من يفعله على وجه اللهو واللعب لا على وجه القربة إلى الله فهذا فيه تفصيل فأما المشتمل على الشبانات والدفوف المصلصلة فمذهب الأئمة الأربعة تحريمه وذكر ابن الصلاح أن هذا ليس فيه خلاف في مذهب الشافعي) وقال في ص 565 (وبالجملة فقد عرف بالاضطرار من دين الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالكف أو القضيب أو الدف كما لم يبح لأحد أن يخرج عن متابعته واتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة لا لعامي ولا لخاصي لكن رخص في أنواع من اللهو في العرس ونحوه كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح) وقال في ص 569 (وسئل عنه الإمام أحمد ـ أي التغبير ـ فقال أكرهه هو محدث . قيل أنجلس معهم ؟ قال : لا .... وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه وما ذكره الشافعي من أنه من إحداث الزنادقة كلام خبير بأصول الإسلام فإن هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلا من هو متهم بالزندقة كابن الراوندي والفارابي وابن سينا ... وأما الحنفاء أهل ملة إبراهيم الذي جعله الله للناس إماما وأهل دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد دينا غيره المتبعون لشريعة خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم فهؤلاء ليس فيهم من يرغب في ذلك ولا من يدعو إليه وهؤلاء هم أهل القرآن والإيمان والرشاد والفلاح) وقال في ص 576 (فمن فعل هذه الملاهي على وجه الديانة والتقرب فلا ريب في ضلالته وجهالته أما من فعلها على وجه التمتع واللعب فمذهب الأئمة الأربعة أن آلات اللهو كلها حرام والمعازف هي الملاهي ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعا ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو هل هو حرام أو مكروه أو مباح وذكر أصحاب أحمد في ذلك ثلاثة أقوال وذكروا عن الشافعي قولين ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعا).
وقال في شأن من يتقربون إلى الله بمثل هذا السماع في ص 633 (هؤلاء ضلال باتفاق علماء المسلمين ولا يقول أحد من أئمة المسلمين إن اتخاذ هذا دينا وطريقا إلى الله أمر مباح بل من جعل هذا دينا وطريقا إلى الله تعالى فهو ضال مفتر مخالف لإجماع المسلمين ...) وقد نقل ابن الصلاح الفقيه الشافعي كما في مجموع الرسائل المنيرية 3/183إجماع المسلمين على تحريم الغناء مع الدف والشبابة . وقد ذكر السفاريني في غذاء الألباب 1/167 حجة من أباح السماع البدعي من الصوفية ثم قال عن كلامهم (هذا وأمثاله عند أهل العلم غير منظور إليه ولا ملتفت له ولا معول عليه).
فكيف يقال بعد ذلك بأن الاحتفال بالمولد والضرب بالدفوف ـ على سبيل العبادة والقربة ـ ليسا من البدع والمنكرات عند جماهير أهل العلم ؟ ومن هم هؤلاء الجماهير ما دام النقل عن الأئمة الأربعة بل إجماع الأمة ثابت بتحريم كل ذلك؟
والحاصل أن الاحتفال بالمولد النبوي والاجتماع لذكر أخبار السيرة بدعة وأمر محدث عند ابن تيمية إلا أن من يفعله تعظيما وحبا للنبي ولا يعرف الحكم الشرعي قد يؤجر لا على الاحتفال المحدث بل على حب النبي صلى الله عليه وسلم، واجتماع الناس في مولده على ذكر سيرته وتدارسها خير من أن يجتمعوا على اللغو واللهو فإن الناس إن لم يشتغلوا بالطاعات اشتغلوا بالمحرمات، ولهذا قال ابن تيمية في الصراط 297 بأن أولئك قد يؤجرون لحسن قصدهم وتعظيمهم للنبي صلى الله عليه وسلم وقال (فإذا رأيت من يفعل هذا ولا يتركه إلا إلى ما هو شر منه فلا تدعو إلى ترك منكر لفعل ما هو أنكر منه ولكن إذا كان في البدعة نوع من الخير فعوض عنه من الخير المشروع بحسب الإمكان إذ النفوس لا تترك شيئا إلا بشيء) فأما إذا كان مع الاجتماع غناء بالصوت فالأمر حينئذ يكون أشد في الحرمة عند ابن تيمية لأن من يفعلونه يتخذونه قربة إلى الله وهو ما لم يشرعه الله، فإن كان معه ضرب بالدف والكف فهو من المنكرات والمحرمات المجمع عليها بين الأئمة لورود النصوص التي تقضي بحرمة أو كراهة آلات اللهو والمعازف في حال اللعب واللهو ـ إلا في الأعراس والأفراح ونحوها ـ فكيف في حال العبادة والتقرب إلى الله؟! فقد أخطأ الأستاذ الفاضل حين نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية إنه يرى جواز الاحتفال بالمولد كما أخطأ حين ادعى بأن الضرب بالدف في المولد ليس من البدع ولا المنكرات عند جماهير الفقهاء.
خامسا : جاء في أسئلة المقابلة (هل يعتبر الإخبار بالمغيبات من المحظورات؟) وأجاب الأستاذ الشراح بقوله (يقول ابن تيمية في الفتاوى 5/252 إنه لا مانع من الإخبار بالغيبيات ....) وجاء في أسئلة المقابلة سؤال عن الاعتقاد بالأولياء وأنهم يعلمون الغيب وأن كراماتهم لا حد لها فلم ينكره الشراح بل أقره!!
وهذا ادعاء باطل مصادم لقطعيات الكتاب والسنة وإجماع الأئمة وسلف الأمة فلا يعلم الغيب إلا الله وحده، وأما ما يطلع الله عليه أنبياءه ورسله من الغيبيات فإنه يخرج بإخبار الله لهم ووحيه إليهم من دائرة ما اختص الله بعلمه من الغيب، وهذا كما يعلم أتباع الرسل كافة بأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، مع أنه لا يعلم متى يقع ذلك إلا الله وحده ومن ذلك قوله تعالى (وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو) وقال في شأن النبي صلى الله عليه وسلم (قل لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير) وقال تعالى (لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) وقد قالت عائشة كما في صحيح مسلم (من زعم أن محمدا يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية) فالله وحده الذي يعلم الغيب ولا يعلم الغيب أحد سواه بنص القرآن ومحكم آياته فلا يقال بأن أحدا يعلم الغيب إذ مثل هذا القول رد صريح على الله ورسوله أما كلام ابن تيمية فقد أخطأ الأستاذ الفاضل في فهمه خطأ فادحا واقتطعه من سياقه الذي لا علاقة له بالموضوع الذي أراد الاستشهاد به له، وهذا نص عبارته كما في الفتاوى 5/250 (قال الله تعالى (وله المثل الأعلى) فإنه سبحانه لا يماثله شيء أصلا فنفسه لا يماثلها شيء من الموجودات وصفاته لا يماثلها شيء من الصفات، وما في القلوب من معرفته لا يماثله شيء من المعارف، ومحبته لا يماثلها شيء، فله المثل الأعلى كما أنه في نفسه الأعلى ...... والخلق في إيمانهم بالله وكتابه ورسوله متنوعون فلكل منهم في قلبه للكتاب والرسول مثال علمي ـ أي صورة ذهنية ـ بحسب معرفته مع اشتراكهم في الإيمان بالله وكتابه ورسوله، فهم متنوعون في ذلك متفاضلون، وكذلك إيمانهم بالمعاد والجنة والنار وغير ذلك من أمور الغيب، وكذلك ما يخبر به الناس بعضهم بعضا من أمور الغيب هو كذلك بل يشاهدون الأمور ويسمعون الأصوات وهم متنوعون في الرؤية والسماع، فالواحد منهم يتبين له من حال المشهود ما لم يتبن للآخر حتى قد يختلفون فيثبت هذا ما لا يثبت الآخر، فكيف فيما أُخبروا به من الغيب؟ والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن الغيب في أحاديث كثيرة وليس كلهم سمعها مفصلة بل هم متفاضلون في السمع والفهم كتفاضل معرفتهم وإيمانهم بحسب ذلك ...... وهذا يبين أن كل من أقر بالله فعنده من الإيمان بحسب ذلك ثم من لم تقم عليه الحجة بما جاءت به الأخبار لم يكفر بجحده، وهذا يبين أن عامة أهل الصلاة مؤمنون بالله ورسوله وإن اختلفت اعتقاداتهم في معبودهم وصفاته، إلا من كان منافقا يظهر الإيمان بلسانه ويبطن الكفر بالرسول، فهذا ليس بمؤمن وكل من أظهر الإسلام ولم يكن منافقا فهو مؤمن له من الإيمان بحسب ما أوتيه من ذلك، وهو ممن يخرج من النار ولو كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان، ويدخل في هذا جميع المتنازعين في الصفات والقدر على اختلاف عقائدهم، ولو كان لا يدخل الجنة إلا من يعرف الله كما يعرفه نبيه صلى الله عليه وسلم لم تدخل أمته الجنة فإنهم أو أكثرهم لا يستطيعون هذه المعرفة بل يدخلونها وتكون منازلهم فيها متفاضلة بحسب إيمانهم ومعرفتهم) انتهى كلامه رحمه الله تعالى فهو يتحدث عن تفاضل الناس في إدراكهم وتصورهم للأشياء بحسب تفاوت علمهم بها مع اشتراكهم في معرفتها والإيمان بها إجمالا، ويضرب على ذلك مثلا فيما يشترك الناس في مشاهدته بحواسهم ومع ذلك يتفاوتون في مدى إحاطتهم علما بهذا المشاهد المحسوس حتى إن بعضهم قد يثبت له ما ينفيه الآخر عنه بحسب قوة المشاهدة وضعفها وبعدها وقربها، فإذا كان الأمر كذلك في الحسيات فما بالك بالغيبيات التي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أمته؟ لا شك بأنهم سيتفاوتون في تصورهم وإدراكهم لها بحسب علمهم بما جاء من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وفهمهم لمعاني كلامه صلى الله عليه وسلم بخصوص هذه الغيبيات، مع كون المؤمنين جميعا يؤمنون بهذه الغيبيات إجمالا، فكلهم يؤمن بالجنة والنار إلا إنهم يتفاضلون في هذه المعرفة، حتى إن بعضهم كأنه يراها رأي العين، فيكون أشد خشية لله وأشد رغبة ورهبة من غيره من المؤمنين، فليس في هذه العبارة من كلام ابن تيمية لا من بعيد ولا قريب ما يشير إلى أنه يرى بأن الأولياء أو أحدا من الخلق يعلم شيئا من الغيب، كما يدعي الأستاذ الشراح وقد أراد الأستاذ الفاضل أن يحتج بقول ابن تيمية (وكذلك ما يخبر به الناس بعضهم بعضا من أمور الغيب) ظنا منه بأنه يقصد الغيب المطلق وهو خطأ بل مقصود ابن تيمية في هذه العبارة مطلق الغيب فيدخل فيه كل ما غاب عن الإنسان حتى من أمور عالم الشهادة فهذه هي التي يخبر الناس بعضهم بعضا بها كما في قصة أخوة يوسف حين قالوا (ما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين) ولهذا قال الراغب الأصفهاني في مفردات القرآن ص 366 (الغيب مصدر غابت الشمس إذا استترت عن العين واستعمل في كل غائب عن الحاسة وعما يغيب عن علم الإنسان .. والغيب في قوله تعالى (يؤمنون بالغيب) مالا يقع تحت الحواس ولا تقتضيه بداهة العقول وإنما يعلم بخبر الأنبياء عليهم السلام) انتهى كلام الراغب.
وهو يزيل الإشكال الذي وقع فيه الأستاذ الشراح حين أخطأ في فهم عبارة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي نص في مواطن كثيرة من كتبه على بطلان إدعاء علم الغيب للأولياء بعبارات محكمة صريحة كان الواجب على الأستاذ الفاضل الرجوع إليها لمعرفة مراده على وجه الصحة ومما يوضح مراد شيخ الإسلام قوله (وكذلك ما يخبر به الناس بعضهم بعضا) وكلمة الناس هنا عامة تشمل الصالح والطالح ولو كان قصده أن بعض الصالحين أو بعض الأولياء يعلم شيئا من الغيب كما فهم الشراح لما جاء بلفظ عام مما يؤكد أنه قصد ما يخبر الناس به بعضهم بعضا من الحوادث التي يشهدها بعضهم ويغيب عنها بعضهم ولهذا قال مباشرة (بل يشاهدون الأمور ويسمعون الأصوات وهم متنوعون في الرؤية والسماع) فإذا كانوا يتفاوتون في إدراك ما يشاهدونه جميعا فكيف يكون حالهم فيما يشاهده بعضهم ويخبر به من غاب منهم؟ لا شك في أنهم أشد تفاوتا في العلم والإدراك والتصور.
وقد قال في الفتاوى 16/110 (قال سبحانه [ قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله ] ... فإنهم ـ أي من في السموات والأرض ـ مع كونهم من أهل العلم والمعرفة لا يعلم أحد منهم الغيب إلا الله، وهذا هو الغيب المطلق عن جميع المخلوقات الذي قال فيه [ فلا يظهر على غيبه أحدا ] والغيب المقيد ما علِمَه بعض المخلوقات من الملائكة والجن والأنس وشهدوه فإنما هو غيب عمن غاب عنه، وليس غيبا عمن شهده، والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشاهده هذا فيكون غيبا مقيدا).
وقد نص القرطبي في تفسيره 7 /2 على كفر من ادعى علم الغيب فقال (من أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة أنها تكون قبل أن تكون فلا ريب في كفره).
وكذا قال ابن العربي في أحكام القرآن 2 /738 وقال القاضي عياض (الكهانة ادعاء علم الغيب).
ولم يطلع الله على غيبه إلا من شاء من رسله كما قال القرطبي (الله تعالى عنده علم الغيب وبيده الطرق الموصلة إليه لا يملكها إلا هو فمن شاء إطلاعه عليها أطلعه ومن شاء حجبه عنها حجبه ولا يكون ذلك إلا من إفاضته على رسله بدليل قوله تعالى [وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله ن يشاء] وقال [لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول]).
وقد نص الفقهاء من جميع المذاهب الفقهية على حرمة الاعتقاد بأن أحدا من الخلق يعلم الغيب وأنه كفر وشرك وهذا مذهب الحنابلة وهو مذهب مالك كما نص عليه ابن العربي والقرطبي بلا خلاف عندهم وكما نص عليه البغوي الشافعي في تفسيره 4/405 وهو مذهب الحنفية كما في الفتاوى الهندية 6/ 323 والبحر الرائق 3/88 ومن هنا ندرك خطورة ما جاء في السؤال والجواب في المقابلة حيث جاء فيها (هل كان ابن تيمية يعلم الغيب ويشفي المرضى كما يقولون؟) فأقر الأستاذ الشراح ذلك واستشهد عليه بما وقع لبعض تلاميذ ابن تيمية حين أرادوا سؤاله والتحاكم إليه في مسألة فأجابهم ابن تيمية قبل أن يسألوه .....الخ
وهذ دليل واضح على اللبس الذي وقع فيه الأستاذ الفاضل فلم يفرق بين علم الغيب ـ الذي اختص الله به ولم يظهر عليه أحدا إلا من ارتضى من رسله ـ والكهانة ـ وهي ادعاء العرافين والمشعوذين والسحرة علم الغيب والإخبار عما غاب عنهم من الأمور ـ والفراسة والفطنة والرؤيا الصادقة وما يقذفه الله في قلب المؤمن من نور يستبصر به عواقب الأمور فهذه ليست من علم الغيب ولا من الكهانة في شيء ولا يعلم صاحبها صحة تحققها على القطع بل على الظن حتى تقع فيعلم حينئذ أن ما وقع في قلبه كان حقا، أما قبل حدوثها فلا يعلم تحقق صدقها بل قد يثبت خلاف ما ظنه ولا يصدق عليه بأنه كان يعلم الغيب ولهذا قال ابن تيمية في الفتاوى 11/ 65 (أما خواص الناس قد يعلمون عواقب أقوام بما كشف الله لهم لكن هذا ليس مما يجب التصديق العام به، فإن كثيرا ممن يظن به أنه حصل له هذا الكشف يكون ظانا في ذلك ظنا لا يغني من الحق شيئا، وأهل المكاشفات والمخاطبات يصيبون تارة ويخطئون أخرى كأهل النظر والاستدلال في موارد الاجتهاد،ولهذا وجب عليهم جميعا الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يزنوا مواجيدهم ومشاهداتهم وآراءهم ومعقولاتهم بكتاب الله وسنة رسوله ولهذا وجب على جميع الخلق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته في جميع أموره الباطنة والظاهرة ولو كان أحد يأتيه من الله ما لا يحتاج إلى عرضه على الكتاب والسنة لكان مستغنيا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض دينه وهذا من أقوال المارقين) انتهى كلامه .
أما القول بأن ابن تيمية يشفي المرضى فهذا خطأ فادح يقدح في أصل التوحيد ولعل الأستاذ الشراح لم يقصد ظاهر اللفظ فالذي يشفي المرضى هو الله وحده لا شريك له كما قال إمام الموحدين إبراهيم [وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين] فكما لا يحيي ويميت إلا الله كذلك لا يشفي العبد ولا يبتليه إلا الله وحده وهذه من خصائص الربوبية كما قال تعالى (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو) وأما عيسى فإنما كان يحيي الموتى ويشفي المرضى بإذن الله وقد جعل الله عز وجل ذلك دليل صدق نبوته ومعجزته وإنما الطبيب يعالج ويتطبب وأما الشفاء فهو بيد الله وحده.
سادسا : جاء في أسئلة المقابلة (هل يوافق ابن تيمية على قدرات الأولياء وتأثيراتهم التي يؤمن بها الصوفية؟) فجاء الجواب بالإيجاب واستشهد الأستاذ الشراح بعبارة ابن تيمية في الفتاوى3/156 (من أصول أهل السنة التصديق بكرامات الأولياء وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات وأنواع القدرة والتأثيرات) وهذا استشهاد في غير مكانه وخطأ علمي من أربعة وجوه :
الوجه الأول : السؤال الموجه للشراح كان عن تأثير الولي وقدرته في عقيدة الصوفية وتصوراتهم الذين يعتقدون أن للأولياء قدرة التصرف في الوجود إمدادا وإيجادا وابن تيمية يتحدث عن كرامة الولي عند أهل السنة الذين يؤمنون بهذا الأصل وفق تصورهم فلا بد من معرفة تصور كلا الطائفتين لمعنى قدرة الولي وكرامته فابن تيمية نفسه رد على الصوفية ادعاءهم أن الأولياء يتصرفون في الوجود وعد هذا الاعتقاد شركا في الربوبية، فكيف يؤتى بكلامه دون فهم مراده للاستشهاد به فيما هو عنده كفر وشرك؟! ومما يوضح ذلك آخر العبارة في النص المذكور حيث قال (وأنواع القدرة والتأثيرات كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة) فقد قيد مراده بالمأثور عمن سلف من الصالحين ممن حدثت لهم كرامات ثبتت بالقرآن والأخبار الصحيحة .
الوجه الثاني : أن اللأولياء عند أهل السنة ليس له قدرة وتأثير في حدوث الكرامات بل الله عز وجل يجريها لهم بلا علم منهم ولا إرادة وقدرة فالله هو الذي يوقعها إكراما لهم متى شاء سبحانه بلا اختيار منهم، بدليل أنهم تارة يستسقون الله إذا أصابهم القحط فيسقيهم ويمطرهم فتكون كرامة لهم، وتارة يستسقون فلا يمطرون، وكما يستنصرون الله على عدوهم ويسألونه المدد سبحانه فينصرهم مع قلة عددهم وعدتهم، وتارة لا ينصرهم بل يبتليهم ويمحصهم ...الخ ولهذا قال ابن تيمية كما في النص السابق (ما يجري الله على أيديهم ...) ولم يقل (ما يحدثونه هم من التأثيرات) بينما السؤال هو عن قدرة الصوفية وتأثيراتهم وبين الأمرين فرق كبير.
الوجه الثالث : أن أهل السنة يثبتون كرامات الأولياء الصالحين الأحياء أما الأموات فقد انقطعوا عن هذا العالم وصاروا في عالم البرزخ فلا قدرة ولا تأثير لهم في هذا الوجود لا نفعا ولا ضرا بينما الصوفية حين يتحدثون عن كرامات الأولياء فإنما يعنون بالدرجة الأولى ويقصدون بذلك الأولياء الموتى ويؤمنون بأنهم في قبورهم يتصرفون في هذا الوجود فيغيثون من استغاث بهم وينصرون من استنصرهم ويشفون المرضى ....الخ بل ويؤمنون بأن أرواح الأولياء تجتمع في ديوان وأنهم يتصرفون في الوجود بالإيجاد والإمداد وقد دار حوار بين الإمام محمد عبده مفتي مصر والشيخ الدلاصي الصوفي كما في الأعمال الكاملة لمحمد عبده 3/543 حول هذه المسألة وقد قال الدلاصي بأن الشيخ الشاذلي وأبا العباس المرسي من أولياء الله ومن أصحاب السر والمدد وأن أتباعهم في حياتهم وبعد مماتهم يتوسلون بهم ويطلبون منهم المدد والسر كما نرى ذلك في كتبهم فرد عليه الشيخ محمد عبده وأنكر ذلك وقال له : هل جاء مثل هذا الذي تنقله عن هؤلاء الأولياء في كتاب الله تعالى؟ قال الدلاصي : لا ! فقال عبده : هل جاء في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال الدلاصي : لا! قال : هل نقل مثله عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسائر الصحابة؟ قال : لا ! قال عبده : هل نقل مثله عن التابعين والأئمة المجتهدين وقدماء الصوفية؟ قال : لا ! فقال عبده : خذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين والأئمة الأربعة وقدماء الصوفية كالجنيد وسائر أهل القرن الأول والثاني وضعهم في كفه وضع من ذكرت من المشايخ المتأخرين في كفه واتبع الراجح ...الخ
والحاصل أن الأولياء في عرف الصوفية هم الأموات من الأئمة الصالحين لا الأحياء المعاصرين فحين يتحدثون عن التأثير والقدرة ونحوهما فإنما يقصدون تأثير هؤلاء الأموات من أصحاب القبور وقدرتهم على التصرف في هذا الوجود وهو ما لا يقوله أهل السنة ولا يثبتونه للأموات ولا للأحياء لا للأولياء ولا للأنبياء بل هذا هو الشرك في الربوبية الذي يخرج صاحبه من الملة كما نص على ذلك عامة الفقهاء كما سيأتي بيانه.
الوجه الرابع : أن أهل السنة يثبتون وقوع الخوارق كما يثبتون وقوع الكرامات والفرق بينهما أن الكرامات عندهم خاصة بالمؤمنين الصالحين كما قال تعالى (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولاهم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون) فالإيمان والتقوى واتباع النبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به ظاهرا وباطنا هو طريق الولاية وما يحدث لهؤلاء المؤمنين المتقين من خوارق العادات هو الكرامات،التي تقع لهم بلا علم منهم بها ولا إرادة ولا قدرة لهم عليها، بل الله يحدثها ويجريها إكراما لهم، أما الخوارق التي تقع من غيرهم من أهل الباطل كالسحرة والمشعوذين والمشركين وأهل القبور القائمين على الأضرحة فهي من الاستدراج والمكر بهم وقد ألف شيخ الإسلام ابن تيمية كتابه (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) لبيان هذه المسألة على وجه الخصوص وجاء فيه كما في ص 150 (كرامات الأولياء لا بد أن يكون سببها الإيمان والتقوى فما كان سببه الكفر والفسوق والعصيان فهو من خوارق أعداء الله لا من كرامات أولياء الله فمن كانت خوارقه لا تحصل بالصلاة والقراءة والذكر وقيام الليل والدعاء وإنما تحصل عند الشرك مثل دعاء الميت والغائب أو بالفسق والعصيان وأكل المحرمات ومثل الغناء والرقص فهذه أحوال شيطانية كما قال تعالى [ ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين]...).
سابعا : وجاء في أسئلة المقابلة سؤال عن الاعتقاد بأن النبي صلى الله عليه وسلم ينفع الناس بعد وفاته وأنه يغيثهم إذا توسلوا به وأجاب الأستاذ الشراح مؤكدا مشرعية كل ذلك؟!! وقال الأستاذ الشراح في جوابه (التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بدعائه ومحبته أو بذاته بعد وفاته مما أجازه جمهور أهل العلم خلافا لابن تيمية...) وأن هذا من القضايا الاجتهادية التي يسوغ الخلاف فيها وأن ابن تيمية خالف الجمهور بل حتى مذهب الحنابلة ...الخ .
ولعل هذه القضية على وجه الخصوص هي أشد ما جاء في المقابلة خطرا وكم تمنيت أن لا يخوض الأستاذ الفاضل في هذا الباب لخطورة موضوعه، وقد اختلط عليه الأمر فلم يفرق بين موضوع التوسل ومفهومه، وموضوع الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم بدعوى أنه ينفع الناس بعد وفاته ويغيثهم مع مصادمة ذلك لقطعيات الكتاب والسنة وإجماع الأمة كما قال تعالى (قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا) وقال على لسان نبيه (قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله) وقال أيضا (قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا) وقال تعالى (قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا) وقال تعالى في بيان حال أهل الشرك وأنهم يخلصون له حين يمسهم الضر (وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه) ....الخ والقرآن كله إنما جاء لبيان هذا الأصل العظيم وهو أنه لا يستحق العبودية إلا الله وحده لأنه لا يملك الضر والنفع والرزق والمنع إلا هو سبحانه فكيف يسأل عباده غيره من الأنبياء كالمسيح أو الأولياء كالخضر أو الجن كما كان أهل الجاهلية يصنعون ؟ فهذه الآيات وغيرها تدل دلالة قطعية على أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم لا يملك لنفسه ولا لغيره رشدا ولا نفعا ولا ضرا ولا دفعا بل هو كما قال تعالى عنه [ قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحد ] وقال صلى الله عليه وسلم (لا تطروني كم أطرت النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله) وهذا الأصل لا خلاف فيه لا في مذهب الحنابلة ولا غيره من المذاهب الفقهية فقد جاء في كتاب الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب أحمد بن حنبل للمرداوي الحنبلي 10/ 327 (من أشرك بالله أو جحد ربوبيته أو وحدانيته ... كفر قال الشيخ ـ أي ابن تيمية ـ وكذا الحكم لو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعا) وقد أقره المرداوي وجاء مثله في كشاف القناع للبهوتي المصري الحنبلي وكتابه من أمهات كتب المذهب حيث قال في 6/168 (أو جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم ويدعوهم ويسألهم إجماعا أي كفر لأن ذلك كفعل عابدي الأصنام القائلين [ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى] ..) فقد علل العلامة البهوتي الحكم عليه بالكفر، لأنه ضاهى عباد الأصنام فلا خلاف في مذهب الحنابلة في أن اتخاذ واسطة تقرب إلى الله كفر وهذه حجة مشركي العرب حين قالوا عن معبوداتهم (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) وقد نقل شيخ الإسلام إجماع العلماء على ذلك وهو حجة في نقله بلا خلاف، وعلى من يدعي الخلاف إثبات أن من الأئمة أو سلف الأمة من خالف في ذلك، بل هذا هو معنى الإسلام ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله كما قال تعالى (وما أمروا إلا أن يعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء) وقد سمى الله الدعاء عبادة كما قال تعالى (وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) أي إن الذين الذين يستكبرون عن دعائي لأن الدعاء هو الشيء الذي أمرهم به في أول الأية وقال تعالى (أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين) وجاء في الحديث (الدعاء هو العبادة) فمن دعا ميتا أو غائبا فقد أشرك بالله سواء دعا نبيا أو وليا، وأصل سبب الشرك هو الفتنة بأصحاب القبور كما قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله تعالى (لا تذرون ودا ولا سواع ولا يغوث ويعوق ونسرا) وأنهم قوم صالحون فلما ماتوا عظمهم من جاء بعدهم فأقاموا لهم تماثيل ليتذكروهم ثم آل بهم الأمر إلى التوسل بهم والاستغاثة بهم ودعائهم ليقربوهم إلى الله زلفى، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن الخليفة الراشد علي بن أبي طالب عندما أرسل أبا الهيجاء فقال له (ألا أبعثك على ما بعثني به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا تدع تمثالا إلا طمسته ولا قبرا مشرفا إلا سويته) وما ذلك إلا لقطع ذرائع الشرك ومنع عودة الوثنية بسبب تعظيم الناس للموتى وفتنتهم بهم بل فتنتهم بأصحاب القبور أشد من فتنتهم بالأحياء من الأنبياء والأولياء، فما عبد المسيح إلا بعد أن توفاه الله إليه، وكذا كل الأنبياء والأولياء إنما عبدهم الناس وأشركوا بهم بعد وفاتهم ولهذا تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن لا يُتخذ قبره مسجدا وأن لا يُصلى في القبور ولا يُصلى إليها وأن لا تتخذ عليها السرج وأن تساوى في الأرض وكان صلى الله عليه وسلم يدعو كما في الحديث الصحيح (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد) إذ كان سبب الشرك هو الغلو في الموتى ثم الإشراك بهم وقد قال ابن عقيل الحنبلي وهو من أئمة المذهب ومحققيه بأن من يعظمون القبور ويكرمونها بإيقاد النيران عليها وتطييبها وتقبيلها وكتب الرقاع للموتى ياسيدي افعل بي كذا وكذا وشد الرحال إليها بأن من يفعلون هذه الأوضاع كفار وقد نقل ذلك عنه تلميذه ابن الجوزي في التلبيس ص 448 واحتج بقوله وهما من أئمة المذهب وكانا قبل ابن تيمية بنحو ثلاثمائة سنة فالقضية ليست كما توهم الأستاذ الفاضل بأنه رأي خاص لشيخ الإسلام ابن تيمية أو أنها قضية اجتهادية خلافية، بل لا خلاف عند الحنابلة في كفر من دعا غير الله كما أنهم نقلوا الإجماع عليها فقد قال ابن تيمية في الفتاوى 1/124 (من جعل الملائكة والأنبياء وسائط يدعوهم ويتوكل عليهم ويسألهم جلب المنافع ودفع المضار مثل أن يسألهم غفران الذنوب وهداية القلوب وتفريج الكروب وسد الفاقات فهو كافر بإجماع المسلمين) إلا أن ابن تيمية لا يحكم على أحد من المسلمين الذين يتلبسون بهذا الشرك بالردة إلا إذا قامت عليه الحجة الرسالية التي تقطع عذره كما نص على ذلك في مواطن عديدة من كتبه كما في الرد على البكري ص 376 لغلبة الجهل وشيوعه في عامة المسلمين.
وقال الشوكاني قاضي قضاة اليمن الفقيه الزيدي في الدر النضيد ص 17 (وإخلاص التوحيد لا يتم إلا بأن يكون الدعاء كله لله والنداء والرجاء واستجلاب الخير واستدفاع الشر له ومنه لا لغيره ولا من غيره [ فلا تدعوا مع الله أحدا] [ له دعوة الحق والذين يدعون من دونهم لا يستجيبون لهم بشيء ] ...) وقال أيضا (الشرك هو دعاء غير الله الأشياء التي تختص بالله أو اعتقاد القدرة لغيره فيما لا يقدر عليه سواه أو التقرب إلى غيره بشيء مما لا يتقرب به إلا إليه وليس مجرد تسمية المشركين لما جعلوه شريكا بالصنم والوثن زيادة على التسمية بالولي والقبر والمشهد كما يفعله كثير من المسلمين بل الحكم واحد .... إذ ليس الشرك هو مجرد إطلاق بعض الأسماء على بعض المسميات بل الشرك هو أن يفعل لغير الله شيئا يختص به سبحانه سواء أطلق على ذلك الغير ما كانت تطلقه عليه أهل الجاهلية أو أطلق عليه اسما آخر فلا اعتبار بالاسم قط).
وقال الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية الفقيه الحنفي رائد النهضة العلمية الحديثة في فتوى في هذا الموضوع في الأعمال الكاملة 3/ 535 عن التوسل بالأنبياء والأولياء وقد قال السائل له بأنه يعتقد بأن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان أعظم منزلة عند الله من جميع البشر إلا إنه ليس له من الأمر شيء ولا يملك للناس نفعا ولا ضرا ولا رشدا كما هو نص القرآن، وأنه لا يتوسل إلى الله إلا بالعمل الصالح كما كان عليه الصحابة والتابعون والأئمة المجتهدون ولا معنى للتوسل بنبي أو ولي إلا باتباعه والاقتداء به فهل اعتقاده صحيح أم باطل ؟ فقال المفتي الشيخ محمد عبده (اعتقادك هذا هو الاعتقاد الصحيح وهو ما يجب على كل مسلم يؤمن بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم فإن الأساس الذي بنيت عليه رسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو هذا المعنى من التوحيد كما قال تعالى [ قل هو الله أحد الله الصمد ] والصمد هو الذي يقصد إليه بالحاجات ويتوجه إليه المربوبون في معونتهم فيما يطلبون فلا صمد إلا هو على أن الذين يزعمون جواز شيء مما عليه العامة اليوم إنما يتكلمون فيه بالمبهمات مما لا تنطبق على ما في نفوس العامة ويفسرون الجاه بالواسطة بما لا أثر له في مخيلات المعتقدين فأي حالة تدعوهم إلى ذلك وبين أيديهم القرون الثلاثة الأولى ولم يكن فيها شيء من هذا التوسل ولا ما يشبهه بوجه من الوجوه وكتب السنة والسير بين أيدينا شاهدة بذلك وأسوأ البدع ما كان فيه شبهة الإشراك بالله وسوء الظن به كهذه البدع... وزعم الزاعم أن لفلان عند الله جاها بهذا المعنى إشراك جلي لا خفي وقلما يخطر ببال أحد من المتوسلين معنى اللفظ اللغوي وهو المنزلة والقدرة ـ ثم أورد حديث عثمان بن حنيف فقال ـ أولا قد وصف الحديث بالغريب وهو ما رواه واحد ويكفي في لزوم التحرز عن الأخذ به أن أهل القرون الثلاثة لم يقع منهم مثله وهم أعلم منا بما يجب ولا وجه لتركهم العمل به إلا علمهم بأن ذلك من باب طلب الاشتراك في الدعاء من الحي كما قال عمر في حديث الاستسقاء (إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإننا نتوسل إليك بعم نبينا العباس فاسقنا قال ذلك رضي الله عنه والعباس بجانبه يدعو الله تعالى ولو كان التوسل ما يزعمه هؤلاء الزاعمون لكان عمر يستسقي ويتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا كان يقول كنا نستسقي بنبينا والآن نستسقي بعم نبيك وطلب الاشتراك بالدعاء مشروع حتى من الأخ لأخيه وليس فيه ما يخشى منه فإن الداعي ومن يشركه في الدعاء وهو حي كلاهما عبد يسأل الله تعالى والشريك في الدعاء شريك في العبودية ثم المسألة داخلة في باب العقائد لا في باب الأعمال ذلك أن الأمر فيها يرجع إلى هذا السؤال: هل يجوز أن نعتقد بأن واحدا سوى الله يكون واسطة بيننا وبين الله في قضاء حاجاتنا أو لا يجوز ؟ أما القرآن فصريح بأن تلك العقيدة من عقائد المشركين وقد نعاها عليهم في قوله تعالى [ ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ] وجاء في الصورة التي نقرؤها كل يوم في الصلاة [ إياك نعبد وإياك نستعين ] فلا استعانة إلا به وقد صرح القرآن بأن أحدا ل أيملك للناس من الله نفعا ولا ضرا وهذا هو التوحيد الذي كان أساس الرسالة المصطفوية) انتهى كلام الإمام محمد عبده مختصرا.
وهو أوضح دليل عل أن القضية ليست كما تصور الأستاذ الفاضل يوسف الشراح قضية خاصة بالسلفية وابن تيمية أو أنها قضية اجتهادية يسع فيها الخلاف بل هي أصل الدين وأساسه وأجل أركانه وهي فرق بين التوحيد والشرك، والإسلام والوثنية، والإيمان والكفر، فالدعاء أربعة أنواع:
الأول: دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم وهذا شرك في الربوبية.
والثاني: دعاء العبد الأنبياء أو الأولياء واتخاذهم واسطة بينه وبين الله عز وجل فهذا شرك في الألوهية، وكلاهما كفر يخرج من الملة.
والثالث: دعاء الله وسؤاله سبحانه بجاه أحد من خلقه نبيا كان أو وليا فهذا بدعة شركية.
والرابع: دعاء الله وحده عند قبر أحد من الأنبياء أو الأولياء ظنا بأنه أحرى للقبول وهو بدعة وذريعة للشرك.
وأما التوسل المشروع فهو التوسل إلى الله سبحانه بالإيمان به وإخلاص العبادة له واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم ونصرة دينه وتوقيره وتعزيره وحبه وحب آل بيته وأصحابه والاقتداء بهم واقتفاء أثرهم ولزوم سبيلهم هذا وأسأل الله لنا وللأستاذ الفاضل التوفيق والسداد في القول والعمل والاعتقاد إنه كريم جواد وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .