الحرية هي التوحيد
2 ـ 2
بقلم د. حاكم المطيري
الأمين العام للحركة السلفية
صحيفة الرأي العام
4 /8 /2003
ثبت بما ذكرناه في المقال الأول من أن الإسلام إنما جاء من أجل تحرير الإنسان تحريرا شكليا ماديا من الرق وهو العبودية الصورية وكذلك تحريره معنويا وروحيا من كل أشكال العبودية لغير الله تعالى؛ بل جعل القرآن هذا التحرير المعنوي غاية التوحيد وأصل الدين كما في قوله تعالى: {يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله} وهذه الربوبية فسرها القرآن بالطاعة والخضوع لغير الله كما في قوله ﷻ: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله} ومعلوم أنهم لم يعبدوهم وإنما أطاعوهم وخضعوا لسلطانهم الديني برضاهم واختيارهم دون إكراه فكان ذلك الخضوع الطوعي هو عبادتهم واتخاذهم أربابا وهكذا فسرها النبي ﷺ لعدي بن حاتم عندما قال: (يا رسول الله إننا لم نعبدهم) فقال النبي ﷺ: (ألم يكن يحرمون عليكم الحلال ويحلون لكم الحرام فتطيعوهم ؟) قال: بلى!، فقال النبي ﷺ: (فتلك عبادتهم)، فقد كان أهل الكتاب عبيدا لأحبارهم ورهبانهم الذين صاروا أربابا لخضوع الناس لسلطانهم الروحي دون أن يشعر أهل الكتاب بهذه العبودية المعنوية التي هي من الشرك بالله الذي حرمه الإسلام تحريما قاطعا لمناقضته للتوحيد وهو إفراد الله وحده بالطاعة والخضوع وهذا أيضا هو معنى ربوبية فرعون الذي قال: {أنا ربكم الأعلى} أي: أنا السيد الذي له عليكم حق الطاعة المطلقة والخضوع المطلق؛ وذلك لسلطانه الدنيوي، والعرب تطلق على السيد اسم الرب كما قال الحارث بن حلزة اليشكري في معلقته في شأن ملك الحيرة: وهو الرب والشهيد على يوم *** الحيارين والبلاء بلاء
ولهذا قال فرعون ليثبت ربوبيته هذه {أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي} فرأى فرعون أن كون ملك مصر له يجعل له حق الطاعة المطلقة على الشعب المصري، وقد سمى القرآن تلك الدعوة الفرعونية ربوبية وإلهية كما في قوله لموسى: {لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين} ومعلوم أنه لم يطلب من موسى إلا طاعته وعدم معارضته لا عبادته بالمفهوم الاصطلاحي لمعنى العبادة، وقد كان بنو إسرائيل في مصر موحدين على دين إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ولم يكونوا يعبدون فرعون، وكذا أهل مصر كانت لهم أوثانهم ودياناتهم ومعابدهم؛ وإنما كانت ربوبية فرعون وإلهيته التي ادعاها لنفسه هي ما فرضه على الناس من الطاعة المطلقة له وعدم معارضته واستبداده بالأمر واستذلاله للشعب؛ ولهذا قال للسحرة الذين آمنوا بموسى: {أأمنتم له قبل أن آذن لكم} فلم تكن المشكلة في نظره أن يؤمنوا بموسى؛ بل المشكلة هي أنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم وهو الملك الذي له الطاعة عليهم؟!
وقد صدق على فرعون أنه جعل من نفسه ربا وإلها لسلطانه الدنيوي وصدق على أهل مصر وبني إسرائيل أنهم جعلوا من أنفسهم عبيدا لخضوعهم لفرعون وطاعتهم المطلقة له كما في قول موسى له: {وتلك نعمة تمنّها علي أن عبّدت بني إسرائيل} ومعنى تعبيد بني إسرائيل لفرعون في هذه الآية إي إخضاعهم لسلطانه واستذلالهم لطغيانه هذا إذا كان مراد موسى هو الاستفهام الاستنكاري فهو ينكر على فرعون إدعاءه أنه أكرمه بتربيته له في قصره ما دام قد ظلم قوم موسى واستذلهم واستعبدهم مع كونهم أحرارا وحذف همزة الاستفهام أسلوب قرآني شائع في لغة العرب فأصلها (أو تلك نعمة تمنها علي...؟!) وإن كان المراد في الآية الإخبار لا الإنكار فالمعنى: وهذه نعمة تمنها يا فرعون علي إذا تركت بني إسرائيل أحرارا وشأنهم يذهبون حيث شاءوا ليصبحوا عبيدا لله وحده لا سلطان لك عليهم ولا طاعة .
كما صدق على الأحبار والرهبان أنهم صاروا أربابا وآلهة لسلطانهم الديني وصدق على أهل الكتاب أنهم صاروا عبيدا لهم بطاعتهم والخضوع لهم.
وإذا كانت العبودية تناقض الحرية؛ فالقرآن إذن جاء لتحرير الإنسان من العبودية للإنسان وذلك بإخلاص التوحيد الذي هو الحرية لله وحده وقد قالت أم مريم: {رب إني نذرت لك ما في بطني محررا} أي: موحدا ومخلصا لك في طاعته وعبوديته ووحدانيته، وإنما أرادت أن تجعل المولود خادما في المعبد لا يخدم أحدا ولا يشتغل بطاعة أحد ولا يخضع لجلال أحد من البشر بل يقصر طاعته لله؛ فقالت: {مُحَرَّرًا} فجعلت التحرير نظير التوحيد؛ فالحرية هنا تعني التوحيد الخالص لله ومما يرسخ مفهوم الحرية الإنسانية الذي جاء به القرآن قوله تعالى: {لا إكراه في الدين} والدين هنا بمعنى الطاعة والخضوع؛ فلا إكراه في طاعة الله وعبادته في الإسلام؛ بل الطاعة قائمة على أساس الحرية لا الإكراه، وإذا كان الله جل جلاله لم يرض من عباده أن يطيعوه أو يعبدوه أو يوحدوه كرها؛ فكيف يسوغ للملوك والرؤساء أن يجبروا الناس لطاعتهم والخضوع لسلطانهم بالإكراه ودون رضاهم ؟!
بل ويتسع مفهوم التوحيد الذي جاء به القرآن ليشمل تحرير الإنسان حتى من الخوف من غير الله كما قال تعالى: {فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين}؛ فشرط لتحقيق الإيمان عدم الخوف من البشر ومن كل ما سوى الله كما قال: {وإياي فارهبون} وهو كقوله: {فإياي فاعبدون} فكما لا تكون العبادة إلا لله وحده؛ فكذلك لا يكون الخوف والرهبة والخشية إلا منه وحده؛ لأنه هو الذي يخلق ويرزق ويحيي ويميت؛ فاستحق وحده الخضوع والخشية والرهبة والرغبة والعبادة والطاعة؛ بل لقد بالغ النبي ﷺ في ترسيخ مفهوم تحرير الإنسان من كل أشكال العبودية لغير الله حتى نهى أصحابه عن القيام له إذا دخل عليهم كما يفعل العبيد مع أسيادهم ونهاهم عن الوقوف على رأسه وهو جالس ونهاهم عن الانحناء له بل نهاهم أن يقول أحدهم لرقيقه ومملوكه (عبدي وأمتي) بل يقول: (فتاي وفتاتي)، وعلل ذلك بقوله: (فكلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله) وكل ذلك من أجل ترسيخ مفهوم حرية الإنسان وعدم عبوديته لغير الله، وكل ما سبق ذكره من أنواع التوحيد هي من معاني الحرية الإنسانية والمساواة التي تفتقدها المجتمعات العربية المعاصرة التي ما تزال ترسف في أغلال العبودية لغير الله كالخضوع للملوك والرؤساء والطاعة لهم في غير طاعة الله والخوف منهم والخشية من سطوتهم والتذلل لهم والافتقار إليهم والتزلف عندهم وتعظيمهم حد تقبيل أيديهم والركوع عند ركبهم والقيام على رؤوسهم إجلال وتعظيما لهم إلى غير ذلك من صور العبودية والشرك بالله بعد أن تم اختزال معنى التوحيد ليصبح قاصرا فقط على الشعائر التعبدية دون باقي الممارسات العملية وبعد أن تم اختزال معنى الحرية ليصبح قاصرا على الحرية الشكلية الصورية التي هي من فروع الدين دون الحرية المعنوية التي هي أصل الدين ؟!!