الخطاب القرآني والخطاب السلطاني
بقلم د. حاكم المطيري
الأمين العام للحركة السلفية
2003 م
كيف صار دين التوحيد الذي وحد العرب وحررهم من كل أشكال العبودية لغير الله وأخرجهم من الظلمات والجور إلى العدل والنور دينا يقر الافتراق ويبرر الاستبداد ويدعو إلى الاستسلام للاستعمار الأجنبي ويغض الطرف عن كل أنواع انتهاكات حقوق الإنسان؟!
وكيف صار العرب ـ الذين حملوا هذا الدين للعالمين ينشرون العدل والحرية والمساواة بين أمم الأرض حتى قال الله فيهم ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) وقال فيهم المؤرخ والفيلسوف الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه ( حضارة العرب ) : ( إن العالم لم يعرف فاتحين أعدل ولا أرحم من العرب) ـ أسوأ أهل الأرض حالا لتخلفهم وتشرذمهم وتظالمهم يرسفون اليوم في أغلال العبودية ويفتقدون أدنى معاني الحرية تتصرف بأوطانهم وثرواتهم وأديانهم يد الاستبداد ومن ورائها أيدي الاستعمار ويباعون في أسواق النخاسة الدولية كقطعان الغنم السائمة والإبل الهائمة فلا يبدون حراكا ولا يحاولون عراكا ؟! ليقف المصلحون من علمائها وأبنائها حائرين في معرفة علتها وأسباب عثرتها فهي من أكثر شعوب الأرض قابلية للخضوع للاستبداد الداخلي والاحتلال الأجنبي هذا حالها منذ احتلالها وهو حالها بعد استقلالها ؟!
إن وراء ذلك بلا شك أسبابا اجتماعية وسننا إلهية لا تتخلف نتائجها عن مقدماتها كما قال تعالى ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) وكما قال سبحانه ( فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا ) وهي تحتاج إلى تدبر ونظر وأول ما يجب البحث فيه وكشف خوافيه ما طرأ على دينها من تحريف وتبديل وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله ( إذا تبايعتم بالعينة وتركتم الجهاد ورضيتم بالزرع سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى تعودوا إلى دينكم ) مما يؤكد أن دين المسلمين اليوم ليس هو الدين الحق الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وكان سببا لظهورهم على الأمم بل هو دين اختلط فيه الحق بالباطل بل طمست فيه معالم الخطاب القرآني بتأويلات الخطاب السلطاني الذي قام علماء السوء باختراعه من أجل إضفاء الشرعية على كل انحراف تقوم به السلطة حتى نجح الاستعمار نفسه في توظيف هذا الخطاب السلطاني في خدمة مخططاته الاستعمارية في أرض الإسلام باسم الإسلام فإذا الأمة تتقرب إلى الله بالاستسلام لعدوها وترى ذلك من طاعة الله ورسوله وهو ما لم يخطر على بال أعداء الأمة أن يجدوا الطريق أمامهم مفتوحا باسم الدين والإسلام والقرآن ؟! لقد تولى كبر هذه الجريمة الأحبار والرهبان وعلماء السلطان الذين قال فيهم الإمام عبد الله بن المبارك
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها ؟!
لقد ظهر البون شاسعا والفرق واضحا بين الخطاب القرآني والخطاب السلطاني في مضامينهما وغاية كل منهما فقد جاء الخطاب القرآني ليحرر الخلق كافة من كل أشكال العبودية لغير الله تحت شعار ( لا إله إلا الله ) وليخرجهم من الظلمات إلى النور كما في قوله تعالى ( كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) وجاء الخطاب السلطاني اليوم ليعيد المسلمين إلى حظيرة العبودية بكل أشكالها لخدمة الآلهة البشرية ( الملوك والرؤساء ) في الخضوع لهم وعدم الاعتراض عليهم والتذلل بين يديهم لكون طاعتهم من طاعة الله ورسوله مهما حاربوا الله ورسوله وعطلوا شرائع الإسلام وأحكام القرآن وبلغ تألههم أن نازعوا الله بأخص خصائص الربوبية كما في قوله تعالى ( لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون ) كما تنازعه الآلهة الحجرية (القبور والأضرحة ) بأخص خصائص ألوهيته في قوله تعالى (وإياي فاعبدون ) ؟!
جاء الخطاب القرآني بالتوحيد الخالص فلا إله إلا الله ولا ملك إلا الله ولا مالك إلا الله ولا خالق إلا الله ولا حاكم إلا الله ولا رب إلا الله كما قال تعالى ( وله كل شيء ) ( له ملك السماوات والأرض )( ألا له الخلق والأمر ) ( إن الحكم إلا لله ) فهو سبحانه (رب الناس ملك الناس إله الناس ) وجاء الخطاب السلطاني ليجعل مع الله آلهة أخرى من الأصنام البشرية ( الرؤساء والعلماء ) يخضع الجميع لحكمهم ويسلموا لقولهم مهما بدا بطلانه واضحا وتناقضه فاضحا فتحالف الفريقان ليعطلوا هدايات القرآن من أجل أهواء السلطان فإذا هم أرباب من دون الله كما كان الأحبار والرهبان في قوله تعالى (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ) يحلون الحرام ويحرمون الحلال ويشايعون أهواء الملوك فإن شاءوا صار القتال جهادا وإن شاءوا صار إرهابا فطاعتهم من طاعة الله ؟!
جاء الخطاب القرآني بالعدل والقسط ( قل أمر ربي بالقسط ) وجعل الغاية من أحكامه وتشريعاته أن يقوم الناس بالقسط ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط) فالجميع تحت حكم الله سواء لا فضل فيه لعربي على أعجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى وجعل سبب سقوط الأمم الظلم كما في الحديث ( إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ) فجاء الخطاب السلطاني ليرسخ أسوء أنواع الطبقية والتظالم فالأمراء طبقات والعلماء طبقات والناس طبقات ولكل طبقة حقوقها ومخصصاتها ومميزاتها وامتيازاتها ؟!
جاء الخطاب القرآني ليقرر ( إنما المؤمنون إخوة ) وكلكم من آدم وآدم من تراب فعبر عن المساواة بأوضح معانيها وصورها باستعمال لفظ الأخوة التي تدل على المساواة المطلقة بين المؤمنين وجاء الخطاب السلطاني ليرسخ مبادئ الجاهلية فإذا في كل مجتمع إسلامي مسلمون بلا حقوق وبلا هوية ولا جنسية يمارس المجتمع ضدهم أبشع أنواع الظلم والاضطهاد ثم لا يجد أحبار السوء غضاضة من تبرير ذلك باسم المصلحة؟!
جاء الخطاب القرآني ليقرر حرية إبداء الرأي وحق نقد السلطة كما جاء في حديث البيعة الصحيح ( وأن نقول أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم ) وحديث ( دعوه فإن لصاحب الحق مقالا ) وحديث ( أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ) وجاء الخطاب السلطاني ليقرر مبدأ تحريم نقد السلطة تحت شعار ( أول الخروج الكلمة )؟!
جاء الخطاب القرآني بمبدأ ( وأمرهم شورى بينهم ) وأكد مبدأ ( الإمارة شورى بين المسلمين ) فلا توارث فيها ولا استبداد ولا إكراه بل شورى وحرية ورضا واختيار وجاء الخطاب السلطاني ليقرر مبدأ استلاب حق الأمة في اختيار السلطة وليرسخ سنن كسر وقيصر وليضفي الشرعية على مبدأ توارثها ؟!
جاء الخطاب القرآني بمبدأ ( من قاتل دون ماله فهو شهيد ومن قاتل دون دينه فهو شهيد ومن قاتل دون عرضه فهو شهيد ) وبمبدأ ( سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر ) وجاء الخطاب السلطاني ليقرر مبدأ ( اسمع وأطع وإن أخذ مالك وضرب ظهرك ) وإن كان ظالما جائرا في الأخذ والضرب ؟!
جاء الخطاب القرآني بالقتال في سبيل الله ( وقاتلوا حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله ) وأوجب قتال من اعتدى على المسلمين فقال ( وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ) وجاء الخطاب السلطاني ليصادر على الأمة حقها في الدفاع عن نفسها فلا قتال إلا بإذن الإمام وبما أنه لا يوجد إمام فلا قتال وإن احتل العدو الكافر الأرض وانتهك العرض ؟!
جاء الخطاب القرآني بوجوب جهاد الكفار والمنافقين ( جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم )( لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذبن كفروا السفلى ) وجعل شعاره ( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ) ( ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ) وجاء الخطاب السلطاني ليوجب على المسلمين الخضوع للمنافقين والمشركين وأعداء الدين وجعل طاعتهم من طاعة الله ورسوله؟!
جاء الخطاب القرآني بالوحدة وأوجب على المسلمين الاجتماع وحرم عليهم الافتراق ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) وجاء الخطاب السلطاني بترسيخ الفرقة وتجويز تقسيم دار الإسلام إلى خمسين دويلة كما أراده أعداء الأمة ؟!