الإيجاز في بيان أوجه الإعجاز
في سورة ( الكافرون)
بقلم د/ حاكم المطيري
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على النبي الأمين، وآله وصحبه أجمعين، وبعد :
فقد سألني أحد الأخوة النجباء، والأدباء الأذكياء، عن وجه الإعجاز في سورة ( الكافرون ) والتي لا يظهر فيها عنده وجه الإعجاز؟!
وقد أجبته إجابة مختصرة مضمونها أن عدم الإتيان بمثلها كاف في إثبات إعجازها مع ما يتراءى لنا من سهولة النظم على مثالها، ثم لما تدبرت فيها من الغد إتباعا لقول الله تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ظهر لي من أوجه الإعجاز البياني ما لم يخطر لي من قبل فشرعت أكتب تلك الخواطر من بعد صلاة الفجر إلى صلاة العصر حتى جاءت هذه الرسالة اللطيفة ، وفي الآية أوجه أخرى لمن أنعم فيها النظر ، وأجال فيها الفكر، وهذه بعض أوجه الإعجاز فيها :
الوجه الأول: أن التحدي والإعجاز تحققا عند عدم الإتيان بسورة على نحو هذه السورة، بقطع النظر عن البحث في وجه الإعجاز فيها، إذ عدم الإتيان هو الإعجاز ذاته، وقد كان باستطاعة المشركين أن يبطلوا دعوى النبي e من أساسها بالإتيان بسورة من مثله، دون أن يسفكوا دماءهم، ويبذلوا أموالهم، وكان الإتيان بسورة واحدة كاف في إبطال الدعوى مع ظهور التحدي أولا بالإتيان بمثل القرآن ثم بعشر سور مثله مفتريات ثم بسورة واحدة كما في قوله تعالى):(قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله ولوكان بعضهم لبعض ظهيرا )) [الكهف88] (( قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات)) [هود 13]، (( قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين))[يونس 38] ((فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا....)) [ البقرة 23-24].
فلما لم يأتوا بشيء من ذلك، مع كون العرب أئمة البيان، وأهل اللسان، وأصحاب اللغة وأربابها، وآل الفصاحة وأصحابها، حتى نظموا من الشعر وقرضوا منه ما لم تقرضه أمة من الأمم كما نص على ذلك المؤرخ الفرنسي ( جوستاف لويون) في كتابه (حضارة العرب)، وبلغ عنايتهم بعلوم اللسان، وفنون البيان، من شعر ونثر أن عقدوا لها الأسواق ليتباروا فيها أيهم أفصح لسانا، وأبلغ بيانا، حتى عبروا عما يعنيهم من أمورهم، وما تختلج من المعاني في صدورهم، وصوروها شعرا ونظما، كأنما يراها السامع رأي العين شكلا ورسما، وأخرجوها بأشعارهم من حيز المعنويات، إلى حيز الماديات، والمصورات المشاهدات، مما يقطع معه أن التحدي وقع لهم فيما يحسنونه وينظمونه، وكان أسهل عليهم أن يأتوا بسورة من مثله من تعرضهم للقتل والحرب، مع طول المدة والمهلة.
الوجه الثاني: إن الإعجاز هو في صرفهم عن الإتيان بمثل هذا القرآن، أو بعشر سور مثله، أو بسورة واحدة، فصارت كل سورة من سوره ـ مهما كانت قصيرة يتراءى للنفس إمكان الإتيان بمثلها ـ معجزة بذاتها لا يستطيع الخلق أن يأتوا بمثلها إلى قيام الساعة(( فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا)) مع عدم وجود ما يحول دون الإتيان بمثلها حساً وطبعاً، ومع استمرار وجود أعداء الرسالة، وقيام التحدي لهم في كل عصر، ومع استهزائهم بالقرآن وسوره، وادعائهم أنه مفترى، وأنهم يستطيعون الإتيان بمثله، وأنه أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وعشيا، ومع ذلك كله لم يأت أحد منهم بسورة واحدة يبطل بها التحدي، فكان صرف الخلق عن ذلك هو المعجز، وهو الإعجاز الدال على صدق الرسول، وصدق الرسالة، وأنها حق من عند الله، فاستوى بذلك القرآن كله، والسورة القصيرة منه،
إذ التحدي وقع في هذا وهذا ،ولم يأت أحد بمثل ذاك و لا ذا ، وهو أمر خارج عن العادة الإنسانية، ومصادم للسنن الاجتماعية، في اجتهاد الخصم والعدو في إبطال دعوى خصمه ونقضها بكل وسيلة يقدر عليها، ولما جبل عليه الإنسان بطبيعته من حب الظهور والظفر فيما هو أدنى من ذلك، فكيف بمثل هذا الأمر العظيم الذي تبطل به الأديان التي هي أحب عند أبتاعها من النفوس والأموال؟!
وإذا كان( الحدوث دليل الإمكان ) وكان القرآن والسورة الواحدة منه من جنس كلام العرب، وكان من جاء به واحداً منهم، وبشراً مثلهم، فقد أصبح في حيز الإمكان أن يأتوا هم بمثله عادة، وخرج بذلك عن أن يكون مستحيلا عادة وعقلا الإتيان بمثله أو بسورة واحدة منه ، وإذا لم يكن مستحيلا فقد وقع إذن التحدي فيما هو ممكن، إذ نظم ست عبارات مثل آيات ( الكافرون ) لا يستحيل عادة ولا عقلا، إذ هو كلام عربي مبين، واضح المعاني، سهل المباني، فكان عدم الإتيان بمثل هذه السورة وغيرها من سور القرآن القصار، هو المعجزة الظاهرة التي لا إعجاز أوضح منها ولا أظهر، سواء أقيل الله هو الذي يحول بينهم وبين الإتيان بمثلها ويصرفهم عن ذلك، أم قيل إن الله خلى بينهم وبين ذلك فلم يستطيعوا، إذ الإعجاز تحقق بعدم الإتيان في حد ذاته بقطع النظر عن أسبابه.
الوجه الثالث: أن القرآن والسورة الواحدة منه كله كلام الله، وهذا أصل الدعوى وأساسها (( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليه )) ((إنا علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه )) (( فأجره حتى يسمع كلام الله )) وإذا كان العقل يقطع بأن ذات الخالق لاتشابه ذوات المخلوقين، فصفاته قطعاً لا تشابه صفاتهم، وكلامه لا يشبه كلامهم، وهذا بدلالة العقل الذي يقطع بأن لا موجود بلا موجود، ولا حادث بلا محدث، ولا مخلوق بلا خالق يتصف بصفات الكمال المطلق.
فإذا ثبت ذلك بدلالة العقل، وثبت أن إرسال الرسل وإنزال الكتب معهم لهداية الخلق إلى خالقهم هو من الممكنات العقلية، وأن خطاب الخالق إلى المخلوق في حيز الإمكان العقلي، وإذا ثبت لدى أهل الأديان قاطبة على اختلاف مللهم ونحلهم السماوية والأرضية أن الله أرسل كثيراً من الرسل لهداية الخلق، وأنزل على بعضهم كتبا، وأوحى إليهم، وكلمهم، وكان حدوث ذلك كله دليل إمكانه، وكان آخرهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن ما جاء به من قرآن هو من عند الله ومن كلامه ووحيه، والدليل عليه هو أن الخلق كلهم لو اجتمعوا ما استطاعوا أن يأتوا بمثله ولا بسورة واحدة، لأنه كلام الله، ثم لم يأتوا فعلا بمثله، كان ذلك أوضح حجة على أن هذا القرآن كلام الله حقا، يستوي بذلك القرآن كله، والعشر سور منه، والسورة الواحدة القصيرة، إذ كلام الله ليس ككلام خلقه، كما أن ذاته ليست كذواتهم (( ليس كمثله شيء)) فالسبب في عدم قدرة العرب والخلق كافة على الإتيان بسورة واحدة قصيرة كمثل( الكافرون ) هو كونها من كلام الله وكفى، والبرهان على ذلك هو عجز الخلق قاطبة عن الإتيان بمثلها، ولا تفسير لذلك بداهة إلا كونها من كلام الله، والإتيان بمثل كلام الله خارج عن حيز الإمكان العقلي، إذ يستحيل عقلا مماثلة المخلوق للخالق في ذاته أو صفاته، فصار القرآن من حيث هو كلام الله يستحيل أصلا الإتيان بمثله عقلا، وخارجا عن حيز الممكنات، ومن حيث هو كلام عربي مبين، يتلوه رجل عربي أمي، بألفاظ وحروف من جنس ما يستخدمه العرب في كلامهم، في حيز الإمكان وفي نطاق قدرتهم، فكان التحدي بذلك أظهر.
الوجه الرابع: إن أسلوب القرآن ونمطه لا عهد للعرب به، فلا هو بالشعر، ولا هو بالنثر ،بل هو قرآن لا يشابه كلامهم مع كونه من جنس كلامهم، ومن مفردات لغتهم، بل إنه لا يشابه كلام النبي e فالفرق بين القرآن والحديث النبوي فرق ظاهر جلي مع كونهما وحي من الله ((وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى))[النجم: 3-4] إلا أن القرآن كلام الله وخطابه، والحديث النبي كلام الرسول وبيانه عن الله تعالى.
وكذلك الفرق بين كلام النبي صلى الله عليه وسلم وكلام أصحابه واضح جلي، لا يكاد يخفى على من يعرق كلامه وأسلوبه ونمطه، وكذا الفرق بين كلام أصحابه وكلام أتباعه، ولهذا يسهل على أهل العلم المتخصصين أن يميزوا بين كلام النبي e وكلام من سواه بالنظر للفظ والأسلوب، كما يستطيع أهل الشعر أن يميزوا بين قصائد الشعراء لمعرفتهم بأسلوب كل شاعر ونمطه، بل ربما استخرجوا من القصيدة الواحدة ما زيد فيها من أبيات ليس منها لكونها ليست من نمطها، ولا يكاد يختلط على أهل الشعر والأدب والنقد شعر أبي الطيب بشعر أبي العتاهية، ولا شعر أبي تمام بشعر البحتري، فضلا عن أن يختلط عليهم شعر أهل الجاهلية بشعر من بعدهم، وشعر العصر الأموي بالعصر العباسي الثاني .
وكذا يستطيع أهل التخصص من الأدباء والفصحاء معرفة أسلوب الرافعي وتميزه عن أسلوب المنفلوطي، وأسلوب العقاد من أسلوب طه حسين، فلكل كاتب وشاعر أسلوبه ونمطه وطريقته التي هي كالبصمة لا يستطيع التخلص منها ولا انتحالها إلا على وجه من التكلف الذي يكشف حقيقة التقليد ،وإذا كان الأمر كذلك كان محاكاة كلام الله أمرا ظاهرا لا يخفى، والتحدي إنما هو في المثلية (( بسورة من مثله)) والمثلية تقتضي المطابقة والمماثلة على وجه لا يمكن معه التمييز بينهما.
ونحن نرى الفرق ظاهراً جلياً بين القرآن والحديث النبوي بحيث لا يخفى الفرق بينهما على من له أدنى معرفة في القرآن والسنة، ولو كان في مقدور أحد من البشر أو العرب أن يتأثر خطا القرآن ويتأثر أسلوبه ونمطه لكان ذلك في مقدور النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد كان أفصح العرب قاطبة، وكان يتلو القرآن بكرة وعشيا مدة ثلاث وعشرين سنة، ومع ذلك كله لم يقع في كلامه صلى الله عليه وسلم - مع كثرة ما تواتر عنه وما حفظ من كلامه- ما يشابه القرآن ولو في عبارة واحدة مع أنه أوتي جوامع الكلم؟!
وهذا ما يجده المسلمون في أنفسهم ،فإنهم يحفظون القرآن عن ظهر قلب، ويتلونه ليل نهار، ويخرج منهم الشعراء، والخطباء، والكتاب، وأئمة اللغة، وأرباب البيان، ثم لا يكاد أحدهم يواطئ أسلوبه أسلوب القرآن، ولا نمطه، ولو مصادفة بلا قصد ؟! مع أن من يحفظ ديوان شاعر، ويعتني بشعره، ويكثر من ترديده، يستطيع محاكاته وتقليده، بل يتأثر أسلوبه ونمطه من حيث لا يشعر.
ولا تفسير لهذه الظاهرة اللغوية في القرآن وأسلوبه ونمطه إلا كونه كلام الله تعالى، فظهر بذلك أن أسلوب السورة القرآنية القصيرة كسورة (الكافرون)، ونمطها، ونظمها، معجز في حد ذاته، لا يستطيع أحد الإتيان بمثله، إذ السور القصيرة كالسورة الطويلة، وكالعشر سور، وكالقرآن كله، على نمط واحد، وأسلوب واحد، وهذا ما يدركه كل عربي بداهة بسليقته، فمهما اختلفت السور في مضامينها، ومعانيها، وقضاياها التي اشتملت عليها، إلا إن أسلوبها ونمطها واحد، لا هو بالشعر ولا بالنثر، بل نمط آخر هو القرآن.
الوجه الخامس: أن الله وصف قرآنه بأنه هدى ونور وفرقان وبرهان وبيان وموعظة وحكمه...الخ وهذه الأوصاف تصدق على القرآن ككل، وما من سورة إلا ولها من هذه الأوصاف حظ ونصيب، فمن آيات البرهان والفرقان التي تخاطب العقول (( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون أم خلقوا السموات والأرض بل لا يوقنون )) وقوله : (( قل هو الله أحد* الله الصمد*....)) وقوله: ((قل لو كان فيها آلهة إلا الله لفسدتا)) ومثلها كثير ،
فهذه الآيات ونحوها دلائل برهانية على إثبات وحدانية الله، فانتظام حركة الوجود، وصلاحه وعدم اضطرابه، دليل على خالقه الذي يصرفه، فهذا برهان عقلي يقوم على مقدمات منطقية هي :
المقدمة الأولى: لو تعددت الأرباب لفسدت السموات والأرض، و لاضطرب الوجود بسبب حدث التنازع واختلاف الإرادات بينهم .
المقدمة الثانية: وبما أنه لاضطراب ولا اختلاف في حركة الوجود بل صلاح وانتظام.
النتيجة: ثبوت وحدانية الرب وانفراده بالخلق والتصريف، واتصافه بكمال القدرة والعلم...الخ.
وباختصار فالتعدد يقتضي الفساد، وبما أنه لا فساد، فلا تعدد، بل وحدانية وانفراد مطلق .
ومن أمثلة الآيات الوعظية التي تخاطب القلوب قوله تعالى : (( نبأ عبادي أني أنا الغفور الرحيم)) ، ((يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقطنوا من رحمة الله إنه هو الغفور الرحيم * وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له...))
ومن أمثلة آيات الحكمة(( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا..))، (( ولا تمشي في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا)) .
ولهذا لم يقع التحدي بآية واحدة، إذ في القرآن آيات هي عبارة عن كلمة واحدة، أو حرف، ولا يظهر في مثل ذلك شيء من ذلك، كما لا يظهر فيه أسلوب ونمط يصلح به التحدي، وإنما يظهر ذلك ويتجلى بالكلام المركب، وذلك ظاهر في كل سورة مهما كانت قصيرة بخلاف الآية التي قد تكون حرفا واحدا مثل (( ن * والقلم وما يسطرون ))
وسورة ( الكافرون ) لها نصيب من الوصف المذكور للقرآن على سبيل الإجمال، وهو كونه بيانا وهدى وفرقانا بين الحق والباطل.
وهذا يتجلى في هذه السورة في أوضح صورة فقوله (( قل يأيها الكافرون)) خطاب ونداء موجه إلى الكافرين جميعا، فدخول (أل) على اسم الفاعل (كافر)، المشتق من (كفر)، المجموع جمعا سالما، هو من أبلغ صور العموم في لغة العرب، فقد أفاد الشمول والاستغراق لكل كافر من مشركي العرب ومن غيرهم، من كان موجودا آنذاك ومن يأتي من بعدهم، فعمهم النداء، وشملهم الخطاب، فلم يستثن منهم أحدا.
ثم قال ((لا أعبد ما تعبدون)) فجاء بالفعل المضارع ( أعبد) الذي يفيد الاستمرار وتجدد الحدث، ثم سلط عليه أداة النفي (لا) ليفيد نفي عموم الفعل وتجدده، وجاء بـ (ما) وهي اسم موصول – مفعول به- وهي من أسماء العموم تفيد الاستغراق والشمول بمعنى (الذي)، وجاء بصلته (تعبدون) وهو فعل مضارع من الأفعال الخمسة، والواو واو الجماعة، فأفادت ( ما تعبدون) عموم معبوداتهم، وعموم عباداتهم على اختلاف أنواعها وأجناسها، لكثرة معبوداتهم وأصنامهم، وأفرد معبوده بقوله (ما أعبد).
ثم قال (( ولا أنتم عابدون ما أعبد )) فجاء بالجملة الاسمية التي تفيد الثبات بعد الجملة الفعلية التي تفيد التجدد والحدوث، ونفى هذه كما نفى تلك، وجاء بالوصف المشتق وهو اسم الفاعل (عابدون) الذي يفيد أيضا معنى الاستقبال .
ثم قال (( ولا أنا عابد ما عبدتم)) فجاء هنا أيضا بالجملة الاسمية ( أنا عابد)
التي تفيد الثبوت، كما جاء من قبل بالجملة الفعلية ( لا أعبد ) التي تفيد الحدوث والتجدد، ونفى هذه وتلك.
فلا ما يصدر عنهم من فعل العبادة كمثل ما يصدر عنه من فعل، ولا الوصف القائم به من العبودية ( عابد ) كالوصف القائم بهم من العبودية ( عابدون)، ولا معبداتهم على اختلافها وكثرتها كمعبدوه مع وحدانيته.
ثم جاء بعد ( عابد ) بالمفعول وجعله اسما موصولا يفيد العموم وهو (ما)، وجعل صلته هنا فعلا ماضيا ( عبدتم)، بينما جعل صلته من قبل فعلا مضارعا ( ما تعبدون ) ، ليشمل النفي الماضي والحاضر والمستقبل .
ثم أكد ذلك بقوله (( ولا أنتم عابدون ما أعبد )) مرة ثانية على سبيل القطع والتأكيد، ليرفع ما قد يتوهمونه من إمكان أن يكونوا على شيء من دينه وعبادته .
ثم قال (( لكم دينكم ولي دين )) ليقطع عليهم طريق اللقاء به ماداموا على كفرهم وشركهم فلهم دينهم وله دينه.
فاشتملت هذه السورة مع قصرها وتكرار ألفاظها وتضمنت من صور العموم والشمول، والقطع والتأكيد، والنفي والإثبات، والبيان والوضوح، ما يجعل منها فرقانا بين الحق والباطل، والإيمان والكفر، والإسلام والوثنية، والتوحيد والشرك.
فمن صيغ العموم ( أيها ) و( الكافرون) و( ما) و( ماتعبدون) و(ما عبدتم) و (عابدون)، وجاء بأصرح ألفاظ النفي وهي (لا) وسلطها على الجملة الفعلية، والجملة الاسمية، كما سلطها على الفعل المضارع، والفعل الماضي ( تعبدون) (أعبد) ( عبدتم) .
وجاء بـ ( ما) وهي اسم موصول يفيد العموم ،تارة يأتي بمعنى (الذي)، وتارة يأتي بمعنى (الذين)، فأتى بالصلة بحسب السياق فقال ( ماتعبدون) أي (الذين تعبدون) ليشمل كل معبوداتهم، وقال ( ما أعبد) أي (الذي أعبد) ليفيد وحدانية معبوده.
وقد تكون( ما ) أيضا مصدرية تسبك بما بعدها فيكون المعنى ( لا أعبد عبادتكم ) و( لا أنتم عابدون عبادتي ).
وعليه فقد تضمنت السورة ما يلي :
1. نفي أن تكون عبادته كعبادتهم، كما نفى أن تكون عبادتهم كعبادته .
2. ونفي أن تكون عبوديته ( عابد)، كعبوديتهم ( عابدون)، ولا صفته ووصفه القائم به كصفتهم ووصفهم القائم بهم، ولا صفتهم كصفته.
3. ونفي أن يكون معبوده الواحد كمعبوداتهم، ولا معبوداتهم كمعبوده الواحد.
4. ونفي أن يكون دينه كدينهم، ودينهم كدينه.
فلا الفعل كالفاعل، ولا الوصف كالوصف، ولا المعبود كالمعبود، ولا الدين كالدين.
فيصدق على هذه السورة القصيرة أنها بيان قاطع، وفرقان فارق، بين الحق والباطل، كما هو شأن القرآن ووصفه، والله تعالى أعلم.
الوجه لسادس: أن التحدي جاء للخلق كافة أنسهم وجنهم، وعربهم وعجمهم، غير أنه لما كان العرب الذين نزل عليهم القرآن وهم عرب الجاهلية من أفصح الأمم، بل أفصحها على الإطلاق، ولما كانت حكمة الله تعالى تقتضي أن تكون آخر رسالة منه للعالمين، وآخر خطاب للعباد، رسالة بيانية، تنزل بأفصح وأوضح لغة، لتقوم حجة الله على خلقه إلى قيام الساعة، من حيث استمرار الحجة وبقائها، ومن حيث وضوحها وبيانها، ولا يتحقق ذلك إلا بأن تكون حجته بيانية لسانية، تتضمن أحكام الله وتشريعاته، وحكمه ومواعظه، وبراهينه وقصصه، وأخباره، على وجه تظهر فيه المعجزة من جهة، والبيان والوضوح من جهة أخرى، بحيث لا يحتاج الخلق معها إلى رسول آخر، ولا معجزة أخرى، ولا رسالة ثانية، بشرط أن يكون خطابه محكما محفوظا لا يأتي الباطل من بين يديه ولا من خلفه، حتى لا يدخل عليه الخلل بالزيادة فيه أو النقص منه، أو تحريفه وتبديله، و إلا لم تقم الحجة على الخلق، ولهذا قال: (( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون )) وقال (( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)).
ولهذا امتن الله على عباده كافه بأن جعل خطابه وكتابه إليهم بلسان عربي مبين هو الغاية في الوضوح والبيان والإيجاز (( كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )) .
كما امتن عليهم بحفظ الله له من التبديل والتحريف (( لئلا يكون للناس على الله حجة)) فبلغ أفصح الخلق وأصدقهم رسالة الله إلى العرب كافة، فلم يمت e حتى دخل العرب في دين الله أفواجا، ثم جعل الله العرب ــ وهم أفصح الأمم وأقدرها على الفهم والإفهام، والتبيين والبيان ، بأوجز عبارة و أوضحها – واسطة بين الرسول وكافة الأمم (( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكون شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا)) فلم يمت آخر صحابي حتى بلغ الإسلام مشارق الأرض ومغربها، ودخلت الأمم من غير العرب في دين الله أفواجا، بعد أن بلغهم العرب حجة الله وخطابه وكتابه بلغاتهم على اختلاف ألسنتهم، فاستجابوا لله ورسوله، وعلم أهل الكتاب أنه الحق الذي بشرت به الأنبياء من قبل، وعلم غيرهم أن كل ما جاء به القرآن من عقائد وأحكام وأخلاق وآداب أوضح دليل على أنه من عند الله وأنه حق كله، كما قال تعالى (( سنيرهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق)) واستوى في ذلك العربي وغير العربي، فكان استجابة العرب للقرآن و إيمانهم به وعجزهم عن الإتيان بمثله ولو بسورة
قصيرة، وشهادتهم له بأنه أفصح الكلام وأوضحه وأجزله، وأنه خارج عن نطاق قدرة أدبائهم، وخطبائهم، وشعرائهم، دليل على أنه معجز وحجة وكان العجم تبعا لهم .
وكذا حال من يأتي بعدهم، إذ التاريخ شاهد على أنه لم يأتي بعد عرب الجاهلية من يجاريهم في الفصاحة والبيان، وفنون وعلوم اللسان، وأن قصارى من جاء بعدهم أن يحاكوا أشعارهم ويتبعوا آثارهم.
ومن هنا يظهر أن الله لم ينزل القرآن على هذا النحو الموجز المعجز تحديا للعرب،بل الصحيح أن الله هيئ العرب على هذا النحو واصطفاهم قبل البعثة، لينزل عليهم كتابه وخطابه الخالد ليفهموه ويبلغوه الأمم الأخرى، وذلك يقتضي إعدادهم على النحو الذي بلغوه وبرعوا فيه في علوم البيان قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم .
والمقصود أن العرب المشركين آمنوا بالقرآن كله، وأدركوا أن كل سوره الطوال والقصار ، بلغت الغاية في الإعجاز البياني، ولم يروا فيه خللا، ولا نقصا، ولا عيبا، لا في طوال سوره ولا قصاره، مع اختلاف مضامينها و موضوعاتها، فإذا أقروا له بذلك، كان اعترافهم وإقرارهم حجة على من سواهم ، من باب أولى، وهذا كما إذا شهد شعراء أهل عصر من العصور على أن أحدهم أشعرهم، فإن شهادتهم له حجة على أهل عصرهم ممن لا يحسن نظم الشعر ولا يقرضه، وليس لغير الشعراء والأدباء إلا التسليم لهم فيما أجمعوا عليه، وإن كان غيرهم لا يرى في شعره ما يرونه هم، ولا يتذوق منه ما يتذوقونه منه، وهذا كحال العامة في هذا العصر الذين لا يتذوقون الشعر العربي الفصيح، لا الشعر الجاهلي ولا الإسلامي، لفساد سليقتهم، وعجزهم عن فهمه وتذوقه، وبسبب قصورهم لا لقصور في الشعر العربي الفصيح، فلا يمكن للعامة أن يحكموا على الشعر العربي ولا أن يميزوا بين طبقات شعرائه، وإنما يقبل ذلك ممن تعلم العربية حتى غدا كأهلها سليقة.
وإذا كان هذا حال العامة مع الشعر العربي، وأنهم تبع لأئمة الشعر، وأدباء العصر، في تذوقه، وفهمه، فكذلك حالهم مع القرآن، فإنهم تبع في فهمه وتذوقه لعرب الجاهلية، الذين أسلموا طوعا وإيمانا منهم بأنه كلام معجز لا يمكن الإتيان بمثله، وأنه لا يجارى في بلاغته، ونظمه، وبيانه، وحكمه، يستوي في ذلك طوال سوره وقصارها، إذ لو رأوا فيه خللا، أو ضعفا، أو عيبا في لغته، لحال ذلك بينهم وبين الإيمان به، و لكان حجة لكل من يرفض الدخول فيه، غير أنهم لم يفعلوا فدل ذلك على أحكامه وإعجازه، ومن ذلك سورة ( الكافرون).
الوجه السابع: أن إعجاز القرآن على وجوه عدة منها :
1- إعجاز بياني من حيث النظم والأسلوب، واستخدام الألفاظ، ومراعاة مقتضى الحال والخطاب، على اختلاف الموضوعات التي طرقها .
2- إعجازه التشريعي وتفصيله للأحكام على كثرتها بأوجز عبارة وأوضحها كما في آيات الفرائض (( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثنين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلث ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منها السدس مما ترك إن كان له ولد....)) فقد اشتملت ثلاثة آيات محكمات من القرآن على علم الفرائض والمواريث كله، وقسمت الفرائض وحددت نصيب كل وارث، في كل أحواله، في حال انفراده وحده ، وحال اجتماعه مع غيره ، وفي حال الذكورة، أوحال الأنوثة، وحال الأبوة، وحال البنوة، وحال الكلالة، على نحو يحتاج بيانه إلى كتب كاملة، وهو ما ليس في نطاق البشر أن يأتوا بمثله على هذا النحو الموجز .
ومع تفاوت نزوله بحسب الحوادث مدة 23 سنة إلا أنه لا يوجد تعارض بين أحكامه وتشريعاته، بل كأن آياته لشدة أحكامها نزلت جملة واحدة.
3- إعجازه الخبري سواء في إخباره عن الماضي، وما وقع فيه من حوادث وقع الخلاف فيها بين أهل الأديان والكتب السابقة، فقصها على الوجه الصحيح كأنه حضرها، أو فيما أخبر به من حوادث المستقبل مما وقع بعد ذلك على وفق ما أخبر، كالإخبار عن ظهور الإسلام وعلوه على الأديان، مع كون ذلك نزل في مكة في حال الضعف والاضطهاد.
4- إعجازه العلمي حيث تحدث القرآن عن قضايا الوجود وخلق السموات والأرض، و أنهما كانتا رتقا ففتق الله بينها، وأنه جعل من الماء كل شيء حي، وأن أصل ذلك الدخان ... الخ
ومازال العلم المادي الحديث منذ نشأته يتوافق مع ما جاء في القرآن من هدايات علمية.
5- الإعجاز الترتيبي حيث أن ترتيب سوره، وكذا ترتيب الآيات في كل سوره، على وفق نظام بديع معجز، مع كونه نزل مفرقا منجما مدة ثلاث وعشرين سنة، فجاء ترتيبه على نحو لا نظير له، لمن تدبر فواتحه، وخواتيمه، وتناسبها، وتناسقها .
6- الإعجاز العددي حيث وردت فيه كثير من المفردات والألفاظ ،كالسماء والأرض، والليل والنهار، والسمع والبصر ،والذكر والأنثى ... الخ على نحو من التوافق والتناسب العددي المعجز .
7- الإعجاز الإتقاني ويتجلى ذلك في حفظه وضبطه على نحو فريد لا يشاركه ما من كتاب بما في ذلك كتب أهل الأديان الأخرى إلا في نسخها اختلاف ونقص وزيادة، هذا مع أن القرآن نزل على أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب، وعلى نبي أمي، ومع ذلك تحقق له هذا الأمر المعجز الذي لا ينازع فيه إلا مكابر ،حتى شهد له بذلك المنصفون الغربيون، ولم يقتصر الحفظ والضبط له بالرسم والخط ،بل بالقراءة، واللفظ، والتجويد، وكيفية قراءة كل حرف فيه.
وكذا يتجلى الإعجاز الإتقاني في إحكام آياته، حتى وقع التحدي فيه كما في قوله تعالى (( ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)) فليس فيه اختلاف ولا اضطراب، بل إحكام وإتقان، يصدق بعضه بعضا، ويفسر بعضه بعضا، حتى كأنه نزل جملة واحدة لا مفرقا على حسب الوقائع والحوادث مدة ثلاث وعشرين سنة؟!
فهذه بعض صور ووجه الإعجاز القرآني، ولكل سورة نصيب وحظ من هذه الوجوه والصور ، ومن ذلك سورة ( الكافرون) ،ففيها إعجاز بياني يتجلى في عجز مشركي العربي عن الإتيان بمثلها، وكذا إعجاز خبري حيث تحقق صدق ما أخبرت به هذه السور القصيرة من أنه لا لقاء بين دين التوحيد ودين الشرك، لا في الماضي، ولا في الحاضر، ولا في المستقبل، مع كونها سورة مكية، وكان ممكنا أن يصلوا إلا حل وسط يرضي الطرفين، غير أن ما أخبرت به السورة هو الذي تحقق على أتم وجه وأكمله.
وكذلك فيها إعجاز ترتيبي فقد جاءت بعد سورة ( الكوثر) وهي مكية، وفيها إخبار بإكرام الله لنبيه ونصره وإعزازه (( إن شانئك هو الأبتر)) و الكوثر تعني الكثرة ،مع أن (الكافرون) فيها مقاطعته e لقومه واعتزاله إياهم ((لكم دينكم ولي دين )) ، ثم جاءت بعدها سورة مدنية وهي (النصر) ((إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا))
والتناسب بين السور الثلاثة ظاهر جلي، وقد تحقق ما أخبر الله به في (الكوثر) من قطع وبتر أعدائه، وما أخبر به في (الكافرون) من عدم اللقاء والتوافق بين النبي صلى الله عليه وسلم وأعدائه، وأن لكل دينه وطريقه، وما أخبر الله به في ( النصر) من دخول المشركين في نهاية المطاف في دين الله أفواجا؟!!
وكذلك في (الكافرون) إعجاز إتقاني فلا اختلاف ولا اضطراب ولا تعارض بينها وبين كل سور القرآن وآياته في موضوعها ومضمونها وإخبارها ونظمها وأسلوبها. والله تعالى أعلى وأعلم .