بسم الله الرحمن الرحيم
الإبانة عن وجوب المظاهرة
والإعانة
فتوى في
وجوب نصرة أهل غزة بكل وسيلة
للشيخ أ.د. حاكم المطيري
منشورة بتاريخ 18 / 1 / 2009
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
سؤال: صدرت حديثا بعض
الفتاوى تحرم خروج المظاهرات والمسيرات لنصرة أهل غزة بدعوى أنها من الفساد في الأرض
وأنها تصد عن ذكر الله وأن الواجب الاقتصار على الدعاء لهم؛ فما صحة مثل هذه الفتاوى؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا الأمين وآله وصحبه أجمعين
وبعد...
هذه المسائل هي من النوازل التي لا يعرف أحكامها إلا من تصورها على حقيقتها
كما يقول الأصوليون: (الحكم على الشيء فرع من تصوره) ولا شك أن هذه الفتوى صدرت ممن
لا يعرف حقيقة المظاهرات، ولا يعرف مدى أثرها وتأثيرها، ومعرفة حكم هذه النازلة يحتاج
إلى مقدمات:
أولا: أن الشارع أذن في جهاد العدو باستخدام كل وسيلة تحقق المقصود سواء
في دفع عدوانه في جهاد الدفع أو تحقيق النصر عليه والظفر به في جهاد الفتح، فالأصل
في هذا الباب: الإباحة والمشروعية لكل الوسائل إلا ما قام الدليل على تحريمه، بل باب
الجهاد قد يسوغ فيه ما لا يسوغ فيما سواه؛ كإباحة لبس الحرير ومشي الخيلاء؛ لإغاظة
العدو، وخروج النساء مع الرجال؛ لمداواة الجرحى ومساعدة المقاتلين... إلخ، فاغتفر فيه
الشارع مثل هذه الأمور؛ لمراعاة مصلحة الجهاد.
ثانيا: وقد ثبت بالنصوص الشرعية وجوب الجهاد بالنفس والمال واللسان؛ كما
في الحديث الصحيح: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) (رواه أحمد والنسائي
وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين).
ولا يخفى أن جهاد اللسان ليس له تأثير مباشر على العدو؛ فلا هو كالجهاد
بالنفس الذي يباشر فيه المجاهد الحرب بنفسه وبيده وبدنه وسلاحه، ولا هو كالمال الذي
يحتاج إليه الجهاد بالنفس -بل قد لا يتحقق الجهاد بالنفس إلا بالمال الذي يوفر به السلاح
والعدة والعتاد للمقاتلين- ومع ذلك؛ أوجب الشارع الجهاد بالكلمة كما قال تعالى: ﴿وَحَرِّضِ
الْمُؤْمِنِينَ﴾ والتحريض هو حث المؤمنين باللسان على الجهاد في سبيل الله، وفي الحديث
الصحيح: (أفضل الجهاد: كلمة حق عند سلطان جائر) وفي الصحيح: (من رأى منكم منكرا فليغيره
بيده، فإن لم يستطع فبلسانه...).
ثالثا: وإذا ثبت أن الكلمة والتحريض باللسان كل ذلك من وسائل الجهاد وأنواعه
وأنها واجبة على كل من استطاعها؛ فإن لها هي أيضا صورا كثيرة، ومن ذلك:
1 - الحرب الإعلامية والدعائية لإرهاب العدو وشق صفه والفتّ في عضده؛ كما
في قصة غزوة الخندق حين استأذن نعيم بن مسعود النبي ﷺ أن يخدع الأحزاب بإثارة الإشاعة الكاذبة بينهم فأذن له وقال ﷺ: (الحرب خدعة) وكذا أذن لمحمد بن مسلمة وأصحابه حين بعثهم لقتل ابن أبي
الحقيق؛ فأذن لمحمد بن مسلمة أن يقول ما يشاء؛ مما يحقق الظفر بالعدو.
2- الشعر والخطب للتعبئة المعنوية؛ كمدح المجاهدين لرفع معنوياتهم، وإثارة
الحماس فيهم وتحريضهم، أو لهجاء العدو وإضعاف معنوياته، وقد قال النبي ﷺ لحسان بن ثابت كما في الصحيح: (أهجهم وروح القدس معك) وقال: (لهو عليهم
أشد من وقع النبل) وما ذاك إلا لشدة أثر الشعر والكلمة، وقوة تأثيرها المعنوي على العدو،
وإلا فليس للكلمة في ذاتها تأثير مادي حسي مباشر؛ ومع ذلك جعلها الشارع من أنواع الجهاد.
3- السب والشتم الذي يغيظ العدو كقوله ﷺ يوم أحد حين قال أبو سفيان: أعل هبل! فقال النبي ﷺ للصحابة ألا تجيبوه؟ قالوا: وما نقول؟ قال: قولوا: (الله أعلى وأجل) وقوله
لهم يوم حنين: (شاهت الوجوه).
4 - وكذا يكون جهاد الكلمة بالاستغاثة والاستنصار بالمجاهدين برفع الصوت
وإثارة النخوة والحمية فيهم؛ كما حصل يوم حنين حين أمر النبي ﷺ عمه العباس أن يصرخ حين فرّ المسلمون في بداية المعركة (يا للأنصار يا
للخزرج يا لأصحاب السمرة) فأقبلوا عليه كارين قد أخذتهم الحمية والنخوة حتى استقتلوا،
وهزم الله عدوهم وكل ذلك بالصرخة والاستغاثة والكلمة المؤثرة!
رابعا: وإذا ثبت مشروعية ذلك كله، وأنه من صور جهاد الكلمة؛ فالمظاهرة
هي من الوسائل التي تتحقق بها كل صور جهاد كلمة، فإن المقصود بالمظاهرات اليوم هو:
إما إثارة النخوة والحمية في المجاهدين، أو تأييدهم وتثبيتهم ورفع معنوياتهم، أو استنصار
الأمة لهم، أو إغاظة عدوهم والإعلان عن جرائمه والتنديد بها إلى غير ذلك من صور جهاد
الكلمة.
خامسا: ثم إن حقيقة المظاهرة هي من التظاهر وهو التعاون والتناصر بين جماعة
على أمر ما؛ فهو في حد ذاته لا حكم له؛ بل تجري عليه الأحكام الشرعية بحسب المقصود
من التظاهر، فإن كان الأمر المقصود مشروعا مستحبا؛ فالتظاهر من أجله: مشروع مستحب،
وإن كان واجبا؛ فهو واجب، وإن كان محرما؛ فهو محرم، وإن كان مكروها؛ فهو مكروه، وإن
كان مباحا؛ فهو مباح، وقد سمى القرآن تعاون عائشة وحفصة على صرف النبي ﷺ عن بعض نسائه تظاهرا؛ كما قال تعالى: ﴿وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ
اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ
ذَلِكَ ظَهِير﴾ وقد أمر الشارع بالتعاون على البر والتقوى وحرم التعاون على الإثم والعدوان
كما قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى
الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ والتعاون هو التناصر والتظاهر، ولا يتحقق إلا من اثنين فأكثر،
فإن التفاعل لا يكون إلا بين اثنين؛ مما يوجب على كل مسلم أن يعاون أخاه المسلم ويناصره
ويظاهره على تحقيق الخير، أو دفع الضر بأي وسيلة ممكنة لهما؛ كما في الحديث الصحيح:
(المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه) وفي الصحيح: (أنصر أخاك ظالما أو
مظلوما) قالوا: عرفنا مظلوما كيف ينصره ظالما قال: (يأخذ على يده فذلك نصرته) والمقصود
أن الخطاب عام لكل مسلم أن ينصر أخاه المظلوم برفع الظلم عنه ولو بالكلمة؛ كما في الصحيح:
(أمرنا رسول الله ﷺ بسبع.. ونصرة المظلوم) فمن ادّعى أن هذا خاص بالحكومات دون أفراد الأمة؛
فقد أبطل دلالات كل هذه النصوص العامة.
سادسا: أن مثل هذه الوسائل قد وقع شبيهها في السيرة؛ فقد جاء في السيرة:
أن الصحابة في مكة، لما أسلم عمر؛ خرجوا صفين على رأس أحدهما حمزة، وعلى الثاني عمر
حتى دخلوا البيت؛ كتظاهر وتعاون بينهم على إرهاب قريش وردعها عن التعرض للمؤمنين المستضعفين
في مكة، وقد أورد هذه القصة الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (مختصر سيرة الرسول ﷺ 1/91) في قصة إسلام عمر وذهابه إلى النبي ﷺ في دار ابن الأرقم: (فقال: ما أنت بمنتهٍ يا عمر؟ فقلت: أشهد أن لا إله
إلاّ الله، وأنّك رسول الله، فكبّر أهل الدّار تكبيرةً سمعها أهل المسجد. فقلت: يا
رسول الله، ألسنا على الحقّ، إن متنا أو حيينا؟ قال: بلى. فقلت: ففيمَ الاختفاء؟ والذي
بعثك بالحقّ لنخرجنّ، فخرجنا في صفّين. حمزة في صفٍّ، وأنا في صفٍّ - له كديد ككديد
الطّحن- حتى دخلنا المسجد. فلما نظرت إلينا قريش أصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها قط. فسمّاني
رسول الله -ﷺ-: الفاروق. وقال صهيب: لما أسلم عمر -رضي الله عنه- جلسنا حول البيت حِلقاً،
فطفنا واستنصفنا مِمَن غلظ علينا)انتهى من مختصر الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
وقد قال محمد بن إسحاق في السيرة النبوية 1 / 64: (قال عمر عند ذلك: (والله
لنحن بالإسلام أحق أن ننادي منا بالكفر، فليظهرن بمكة دين الله، فإن أراد قومنا بغياً
علينا ناجزناهم، وإن قومنا أنصفونا قبلنا منهم، فخرج عمر وأصحابه، فجلسوا في المسجد،
فلما رأت قريش إسلام عمر؛ سقط في أيديهم)
وهذه الحادثة أخرجها مطولا ابن أبي شيبة في تاريخه -كما في الإصابة
4/590- ومن طريقه أبو نعيم الأصبهاني في الحلية 1/40 وفي الدلائل 1/221 رقم 187 قال:
حدثنا أحمد بن محمد بن الحسن قال: ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: ثنا عبد الحميد
بن صالح قال: ثنا محمد بن أبان، عن إسحاق بن عبد الله، عن أبان بن صالح، عن مجاهد،
عن ابن عباس قال: سألت عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لأي شيء سميت الفاروق؟ قال: أسلم
حمزة قبلي بثلاثة أيام وخرجت بعده بثلاثة أيام فإذا فلان ابن فلان المخزومي قلت له:
أرغبت عن دين آبائك واتبعت دين محمد ؟ قال: إن فعلت فقد فعله من هو أعظم حقا مني عليك
قلت: من هو؟ قال: ختنك وأختك قال: فانطلقت فوجدت الباب مغلقا وسمعت همهمة قال: ففتح
لي الباب فدخلت فقلت: ما هذا الذي أسمع عندكم ؟ - ثم ذكر القصة - قلت: أين رسول الله
ﷺ؟ قالت: عليك عهد الله وميثاقه أن لا تجبهه بشيء يكرهه قلت: نعم قالت:
فإنه في دار أرقم بن أبي أرقم في دار عند الصفا فأتيت الدار وحمزة في أصحابه جلوس في
الدار ورسول الله ﷺ في البيت فضربت الباب فاستجمع القوم فقال لهم حمزة: ما لكم ؟ قالوا: عمر
بن الخطاب قال: افتحوا له الباب فإن قبل قبلنا منه، وإن أدبر قتلناه، فسمع ذلك رسول
الله ﷺ فقال: ما لكم؟ قالوا: عمر بن الخطاب قال: فخرج رسول الله ﷺ فأخذ بمجامع ثيابه ثم نتره نترة فما تمالك أن وقع على ركبتيه على الأرض
قال: ما أنت بمنته يا عمر؟ قال: قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله قال: فكبر أهل الدار تكبيرة سمعها أهل المسجد قلت: يا رسول الله
ألسنا على الحق إن متنا وإن حيينا ؟ قال: بلى والذي نفسي بيده إنكم لعلى الحق إن متم
وإن حييتم قال: فقلت: ففيم الاختفاء ؟ والذي بعثك بالحق لتخرجن فأخرجناه في صفين حمزة
في أحدهما وأنا في الآخر له كديد ككديد الطحين حتى دخلنا المسجد، قال: فنظرت إلي قريش
وإلى حمزة فأصابتهم كآبة لم يصبهم مثلها فسماني رسول الله ﷺ الفاروق وفرق بين الحق والباطل»
وأخرجه أيضا من طريق ابن أبي شيبة ابن عساكر في تاريخ دمشق 44 / 29 أخبرنا
أبو البركات الأنماطي أنا أبو الفضل بن خيرون أنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن أنا
أبو جعفر محمد بن عثمان نا عبد الحميد بن صالح نا محمد بن أبان عن إسحاق بن عبد الله
عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن عباس قال سألت عمر بن الخطاب لأي شيء سميت الفاروق
فذكره..
قال ابن حجر في الإصابة: (وأخرج محمّد بن عثمان بن أبي شيبة في تاريخه
بسند فيه إسحاق بن أبي فروة)
وهذا إسناد ضعيف إلا أن هذا الخبر من أخبار السير وله شواهد كثيرة تؤكده
كما عند ابن إسحاق في السيرة ومن ذلك أيضا:
1- ما أخرجه ابن سعد في الطبقات 3/269 قال أخبرنا محمد بن عمر قال حدثني
علي بن محمد عن عبيد الله بن سلمان الأغر عن أبيه عن صهيب بن سنان قال: (لما أسلم عمر
ظهر الإسلام ودعي إليه علانية وجلسنا حول البيت حلقا وطفنا بالبيت وانتصفنا ممن غلظ
علينا ورددنا عليه بعض ما يأتي به).
وهذا وإن كان فيه الواقدي فلا يضره لأنه من أعلم الناس بالمغازي والسير
وقد قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة الأسبق - الفتاوى والرسائل
5/66 - عن ابن إسحاق والواقدي: (فإنهما وإن تكلم فيهما بعض أئمة العلم فهما مشهوران
بالعلم عند أئمة زمانهما...) ثم ساق ثناء الأئمة عليهما والاحتجاج بهما في باب الأخبار
والمغازي والسير وذب عنهما ما قيل فيهما من طعن وأطال في ذلك ونقل كلام شيخ الإسلام
ابن تيمية وهو في الصارم المسلول 1 /101 حيث استدل بخبر فيه الواقدي ثم قال: (وإنما
سقنا القصة من رواية أهل المغازي مع ما في الواقدي من الضعف لشهرة هذه القصة عندهم
مع أنه لا يختلف اثنان أن الواقدي من أعلم الناس بتفاصيل أمور المغازي وأخبرهم بأحوالها
وقد كان الشافعي وأحمد وغيرهما يستفيدون علم ذلك من كتبه)
2- وأخرج ابن سعد أيضا 3/270 قال أخبرنا عبد الله بن نمير ويعلى ومحمد
ابنا عبيد قالوا أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال سمعت عبد الله
بن مسعود يقول: (ما زلنا أعزة منذ أسلم عمر قال محمد بن عبيد في حديثه لقد رأيتنا وما
نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتلهم حتى تركونا نصلي) وهذا إسناد
صحيح.
3 - وأخرج ابن سعد أيضا 3/270 قال أخبرنا يعلى ومحمد ابنا عبيد وعبيد الله
بن موسى والفضل بن دكين ومحمد بن عبد الله الأسدي قالوا: أخبرنا مسعر عن القاسم بن
عبد الرحمن قال: قال عبد الله بن مسعود (كان إسلام عمر فتحا وكانت هجرته نصرا وكانت
إمارته رحمة لقد رأيتنا وما نستطيع أن نصلي بالبيت حتى أسلم عمر فلما أسلم عمر قاتلهم
حتى تركونا فصلينا) وهذا إسناد صحيح أيضا.
فهذه الأخبار كلها؛ تؤكد صحة ما جاء في خبر ابن أبي فروة، وأن عمر لما
أسلم خرج بالصحابة إلى البيت، وتظاهروا وتناصروا حتى طافوا بالبيت حلقا وصلوا فيه وانتصفوا
ممن آذاهم إلا أن روية ابن أبي فروة أحسن تفصيلا وسردا للقصة.
وهذه الحادثة حتى على فرض ضعفها سائغ الاستدلال بها؛ لموافقتها الأصول
العامة وليس في الباب ما يعارضها ومعلوم في أصول مذهب أحمد وغيره من الأئمة أنه يعمل
بالضعيف ويستدل به إذا لم يوجد ما يعارضه كمال قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن
أصول مذهب أحمد بن حنبل1 /31: (الأصل الرابع الأخذ بالمرسل والحديث والضعيف إذا لم
يكن في الباب شيء يدفعه وهو الذي رجحه على القياس وليس المراد بالضعيف عنده الباطل
ولا المنكر ولا ما في روايته متهم بحيث لا يسوغ الذهاب إليه والعمل به بل الحديث الضعيف
عنده قسيم الصحيح وقسم من أقسام الحسن ولم يكن يقسم الحديث إلى صحيح وحسن وضعيف بل
إلى صحيح وضعيف وللضعيف عنده مراتب فإذا لم يجد في الباب أثرا يدفعه ولا قول صاحب ولا
إجماعا على خلافه كان العمل به عنده أولى من القياس وليس أحد من الأئمة إلا وهو موافقه
على هذا الأصل من حيث الجملة فإنه ما منهم أحد إلا وقد قدم الحديث الضعيف على القياس).
أما القول بأن هذه القصة في مكة وأنها منسوخة فقول باطل إذ المنسوخ هو
الصفح والعفو بآيات الجهاد وليس العكس مع أن القول الراجح كما قال شيخ الإسلام أن أحكام
العهد المكي غير منسوخة بل يعمل فيها في حال الاستضعاف.
ولا يؤثر في مشروعية التظاهر ما قد يقع فيه من تجاوزات غير مقصودة؛ إذ
يبقى للتظاهر حكمه وللأفعال العارضة فيه حكمها، ومعلوم أن الجهاد قد يقع فيه تجاوزات
وأخطاء؛ كما حصل في قتال الصحابة في الأشهر الحرم، وما حصل من تجاوز من خالد بن الوليد
في القتال حتى قال النبي ﷺ: (اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد) ومع ذلك لم يعزله عن الجيش، ولم
يتوقف الجهاد؛ لوقوع مثل هذه الأخطاء فيه، وكذا ما قد يقع في جهاد الكلمة من تجاوز
لا يفضي إلى ترك جهاد الكلمة، وكذلك المظاهرات؛ فإن ما قد يقع فيها من تجاوز له نفس
الحكم سواء بسواء؛ فلا يمنع التعاون بين المؤمنين والتظاهر فيما بينهم لنصرة إخوانهم
بالكلمة بدعوى أنه قد يقع منهم بعض التجاوز.
وكذا لا يبطل مشروعية المظاهرة عدم جدواها كما يتوهم المتوهمون؛ لأن إنكار
المنكر باللسان هو في حد ذاته وجب شرعا وهو من صور الجهاد؛ فلا يلتفت إلى النتائج في
مثل هذا؛ بل يجب على الأمة القيام بما أمر الله القيام به ومن ذلك الصدع بالحق كما
في الحديث الصحيح: (وأن نقول الحق أو نقوم بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم)
سواء زال المنكر أو لم يزل؛ إذ هذا معنى قيامها لله بالعدل والقسط قولا وفعلا.
وكذا لا يلتفت إلى ترك السلطة لواجباتها فإن ذلك لا يسوغ للأمة التخلي
عن الواجب عليها كما قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في الفتاوى 4 /101 حيث قال
في مسألة وجوب الدعوة: (وهذا يدخل في الجهاد، فإن قام ولاة الأمر بذلك؛ فإنه متعين
عليهم، وهذا من أهم مقاصد الولاية التي من أجلها أمر بالسمع والطاعة؛ لحماية حوزة الدين،
فإذا أخل بذلك من جهة الولاة؛ فواجب على المسلمين أن يعملوا هذا).
وكذا لا يلتفت إلى رفض الحكومات للمظاهرات؛ إذ تقاعس الحكومات عن القيام
بواجب النصرة للشعب الفلسطيني منكر أعظم؛ يجب على الأمة إنكاره بكل وسيلة حتى تقوم
الحكومات بواجباتها المنوطة بها.
والمقصود أنه إذا ثبت أن جهاد الكلمة من أفضل أنواع الجهاد، وأن الأصل
في وسائل جهاد العدو الإباحة والحل حتى يقوم دليل الحظر والمنع، وأن الوسيلة قد تكون
واجبة إذا لم يتحقق الواجب إلا بها، وأن المظاهرة هي من التظاهر وهو التعاون والتناصر
بين جماعة من الناس على أمر ما، وأن الشارع قد أمر بالتعاون والتناصر بين المؤمنين
على البر والتقوى، ومن ذلك نصرة المظلوم والأخذ على يد الظالم وإزالة المنكر أو إنكاره
باللسان، وأن وقوع شيء من المحظورات في المظاهرات، لا يبطل مشروعيتها ووجوبها.. إلخ
إذا ثبت ذلك كله؛ فلم يبق إذن إلا معرفة مدى أثر المظاهرات اليوم في إزالة
المنكر أو تخفيفه أو التنديد به وإنكاره- ومثل ذلك لا يرجع في معرفة حكمه إلى الفقهاء
-لو خفي أمره- بل إلى الخبراء في السياسة والإعلام والجهاد، ولا خلاف بينهم على أهمية
المظاهرات وشدة تأثيرها على الرأي العام وعلى العدو، وأنها باتت في هذا العصر الذي
صار العالم فيه كالقرية الصغيرة من أهم وسائل التأثير وأشدها، ولا أدل على ذلك من دعوة
المجاهدين في غزة الأمة إلى التظاهر نصرة لهم؛ لما لذلك من أثر معنوي ونفسي وسياسي
في صالح المجاهدين في فلسطين.
فكيف والأمر أظهر من أن يذكر؛ سواء مدى أثر المظاهرات في الضغط على الحكومات
الإسلامية للمبادرة إلى نصرة أهل غزة، وكذا مدى أثر المظاهرات على أهل غزة أنفسهم وتثبيتهم
ورفع معنوياتهم، وكذا شدة أثرها على استنهاض أهل النجدة والنخوة من الأفراد والجماعات
للمبادرة لإغاثتهم ونصرتهم، وكذا شدة أثرها في النكاية بالعدو والتنديد بجرائمه؛ فهذه
الأسباب كاف بعضها للقول بوجوبها، والواقع أصدق شاهد على ضرورتها؛ فكيف بها كلها؟ فهذا
ما لا ينبغي الخلاف فيه ثم المرجع في هذا كله للكتاب والسنة وإجماع الأمة، فإن اختلف
الفقهاء في نازلة تخصّ الجهاد وأحكامه؛ فأحق أهل العلم بالإتباع هم أهل الثغر، والعلماء
الربانيون المجاهدون؛ فهم أبصر من غيرهم بالواقع، وأقدر على تنزيل نصوص الشارع عليها،
وأعلم بتحقق المناط فيها والله تعالى أعلم.