الإفادة في بيان أحكام المقاومة والشهادة
بيان في وجوب نصرة المقاومة في فلسطين ولبنان
بقلم د/ حاكم المطيري
الأمين العام لحزب الأمة
والأستاذ المساعد في قسم التفسير والحديث
كلية الشريعة بجامعة الكويت
صحيفة الرأي العام 8 /8 / 2006
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على إمام المجاهدين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين وبعد:
فقد كثر الحديث وتكرر السؤال عن حكم دعم المقاومة الفلسطينية بقيادة حماس واللبنانية بقيادة حزب الله في حربهما مع إسرائيل ؟وما الواجب على الأمة تجاه هذه الحرب؟وهل القتال فيها من الجهاد المشروع؟وهل المقتول فيها يعد شهيدا؟وهل يجوز الدعاء لهم بالنصر على إسرائيل؟
والجواب كما يظهر من عموم نصوص الشريعة وقواعدها ومقاصدها هو وجوب دعم المقاومة في فلسطين وفي جنوب لبنان بكل ما تستطيع الأمة تقديمه من دعم بالمال والنفس والكلمة وهو نوع من أنواع الجهاد،والقتلى فيها من المسلمين شهداء على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم،لهم أحكام الشهداء الدنيوية من حيث أنهم لا يغسلون ولا يصلى عليهم ويدفنون في ثيابهم،وذلك للأدلة التالية:
أولا : أن الحرب القائمة في جنوب لبنان هي كالحرب القائمة في أرض فلسطين الآن سواء بسواء من حيث أطرافها وأسبابها وأهدافها فهي عدوان صهيوني إسرائيلي وصليبي غربي على شعبين مسلمين عربيين مستضعفين بهدف السيطرة على الأمة وتنفيذ مشرع أمريكا الاستعماري في المنطقة (الشرق الأوسط الجديد) ولا فرق بين الحالين ولا الحربين في لبنان وفلسطين وقد قال تعالى(وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وقال تعالى(وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم)
فكما يجب على المسلمين في أرض فلسطين القتال دفاعا عن أنفسهم وحرماتهم وأرضهم تحت الاحتلال الصهيوني،كما لهم أن يقاتلوا مع الفلسطسنيين المسيحيين وأن يتعاونوا جميعا على دفع العدوان عنهم،فكذلك يجب على المسلمين في لبنان أن يقاتلوا دفاعا عن أنفسهم وحرماتهم وأرضهم حتى مع غير المسلمين من أهل لبنان،وكما أنه يجب الوقوف مع الشعب الفلسطيني لدفع العدوان الصهيوني عنهم،فكذلك يجب الوقوف مع الشعب اللبناني لدفع العدوان ذاته.
فإذا كان القتال في فلسطين حقا مشروعا بل واجبا مفروضا على المسلمين فيها،وكذا القتال في لبنان حقا مشروعا للمسلمين فيها دفاعا عن النفس والأرض والعرض،فإنه يكون من باب جهاد الدفع ـ وهو أوجب أنواع الجهاد ـ وتترتب عليه كل أحكامه،ومن ذلك:
1- ثبوت الشهادة لمن قتل فيه لعموم النصوص كما في الصحيحين(من قتل دون ماله فهو شهيد)،وفي السنن بإسناد صحيح(من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد،ومن قاتل دون دينه فقتل فهو شهيد،ومن قاتل دون دمه فقتل فهو شهيد،ومن قاتل دون أهله فقتل فهو شهيد)،وفي رواية (من قتل دون حقه فهو شهيد).
فالمسلمون الذين يقاتلون ويقتلون في فلسطين ولبنان ظلما وعدوانا اجتمع لهم وصفان يوجب كل واحد منهما وصف الشهادة وأحكامها الأول لمن قاتل منهم دون نفسه أو أهله أو دينه أو ماله فقتل والثاني من قتل منهم مظلوما وإن لم يقاتل ولهذا جاء في دليل الطالب في فقه الحنابلة (وشهيد المعركة والمقتول ظلما لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ويجب بقاء دمه عليه).
وشهيد المعركة كما نص عليه الفقهاء وهو ظاهر النصوص الشرعية : هو كل قتيل من المسلمين في حرب مع عدوهم صالحا كان المسلم أو فاسقا،سنيا كان أو بدعيا،كما في فتح الباري 3/309(باب الصلاة على الشهيد):( قال الزين بن المنير :والمراد بالشهيد قتيل المعركة ـ أي من المسلمين ـ في حرب الكفار . قال الحافظ :ولا فرق في ذلك بين المرأة والرجل صغيرا أو كبيرا حرا أو عبدا صالحا أو غير صالح ) انتهى .
فلا خلاف بين العلماء في أن كل مسلم يقتل في المعركة مع الكفار شهيد في أحكام الدنيا، ولذا اختلفوا في هل يصلى عليه أم لا؟وهل يغسل أم لا ؟وأكثر الفقهاء على أنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولم يختلفوا في كونه شهيدا له خصوصية ليست لغيره من موتى المسلمين كما ثبت في السنة،ولا يقتضي ذلك القطع له بالجنة والشهادة له بها،إذ لا يعلم ذلك إلا الله كما قال الحافظ في الفتح 6 / 90 في باب (لا يقال فلان شهيد) :( أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي .... وإن كان مع ذلك يعطى أحكام الشهداء في الأحكام الظاهرة ولذلك أطبق السلف على تسمية المقتولين ببدر وأحد وغيرهما شهداء والمراد بذلك الحكم الظاهر المبني على الظن الغالب ) انتهى كلام ابن حجر.
والمقصود أن كل مسلم يقاتل العدو الصهيوني في أرض فلسطين ولبنان دفاعا عن النفس والمال والدين والأهل فهو مجاهد جهاد دفع من أي طائفة إسلامية كان سنيا أو شيعيا،فإن قتل في حرب العدو فهو شهيد في حكم الدنيا له أحكام الشهداء فلا يغسل ولا يصلى عليه ولا يكفن،وكذا من قتل من المسلمين في أرض فلسطين ولبنان جراء هذه الحرب العدوانية لهم حكم الشهداء وإن لم يقاتلوا لتحقق الوصف فيهم إذ أنهم قتلى مسلمين في حرب مع عدو كافر وأرضهم كلها صارت أرض معركة حيث طالهم القصف الصاروخي والمدفعي.
أما من قاتل منهم لتكون كلمة الله هي العليا فهذا أشرف أنواع الجهاد في سبيل الله وهو أعلى درجة عند الله ممن قاتل فقط دفاعا عن نفسه وماله وأرضه وإن كان كلاهما مجاهد وشهيد،وكما في الحديث الصحيح(إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى)،وكما في الحديث الآخر(رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته).
2- كما يترتب على وجوب الجهاد عليهم وجوب نصرهم على من وراءهم من الأمة الأقرب فالأقرب،فإذا ثبت أن المسلمين في فلسطين ولبنان في جهاد دفع للعدو،وأنه يجب عليهم قتاله،فالنصرة واجبة على الأمة من ورائهم،لعموم الأدلة وللإجماع كما قال الجصاص:(ومعلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل الثغور من العدو على بلادهم وأنفسهم وذراريهم أن الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين وهذا لا خلاف فيه بين الأمة)،ولا يلتفت للخلاف المذهبي والطائفي،وأحكام الجهاد لا يلتفت فيها لشيء من ذلك،بل الأمر منوط بثبوت وصف الإسلام العام،ولهذا قرر أهل السنة أن الجهاد ماض مع كل إمام برا كان أو فاجرا،لمراعاة المصالح الكلية التي تتحقق للأمة بالجهاد سواء كان جهاد فتح أو جهاد دفع،وكما قال صديق حسن في الروضة الندية 333 عن الجهاد وأحكامه :(هذه فريضة من فرائض الدين أوجبها الله على عباده المسلمين من غير تقيد بزمان أو مكان أو شخص أو جور أو عدل).
ثانيا : أنه كما لم يتوقف الجهاد في أرض فلسطين منذ أكثر من نصف قرن إلى اليوم ولم يلتفت العلماء لعدم وجود الدولة الإسلامية والحكومة الإسلامية،ولم يشترط أحد من علماء الأمة مثل هذا الشرط للحكم بمشروعية قتال الشعب الفلسطيني وحربه طول هذه العقود مع إسرائيل،وكذا جهاد الشعب الجزائري ضد فرنسا،وجهاد الشعب الليبي ضد إيطاليا،حتى أفتى الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي المملكة الأسبق كما في مجموع فتاواه 6/ 208 للجزائريين بمشروعية قتال فرنسا وجواز قتل المجاهد نفسه إذا خشي أن يؤسر فيعترف بأسرار المقاومة الجزائرية،بناء على أنه جهاد مشروع،وأن من يقتل نفسه بقصد حماية المقاومة وراءه مأجور قياسا على قصة الغلام وأهل السفينة،وكانت الجزائر آنذاك تحت الاحتلال الفرنسي،ولم يكن للمقاومة دولة ولا حكومة،وكانت تضم في صفوفها كل التيارات السياسية على اختلاف أطيافها،ولم يشترط لمشروعية قتالهم أي شرط،وما زال المسلمون في كل مصر وعصر يقاتلون من دهم أرضهم دفاعا عن أنفسهم دون توفر أي شرط من الشروط طلبا للشهادة ونكاية بالعدو وحماية للحرمة، كما في حاشية البيجوري الشافعي 2/ 491عن صورة جهاد الدفع:(أن يدخل الكفار بلدة من بلاد المسلمين أو ينزل قريبا منها فالجهاد حينئذ فرض عين عليهم فيلزم أهل ذلك البلد حتى الصبيان والنساء والعبيد والمدين ولو بلا إذن من الأولياء والأزواج والسادة ورب المال الدفع للكفار بما يمكن منهم ولو بضرب بأحجار ونحوها)انتهى.
ولا يشترط كذلك تأهيل لقتال أو توفر إمكانات أو ظن تحقيق نصر كما قال الخطيب الشربيني الشافعي في الإقناع 2/ 510( الحال الثاني من حال الكفار أن يدخلوا بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم ويكون الجهاد حينئذ فرض عين سواء أمكن تأهيلهم لقتال أم لم يمكن ومن هو دون مسافة القصر من البلدة التي دخلها الكفار حكمه كأهلها وإن كان في أهلها كفاية لأنه كالحاضر معهم فيجب على كل من ذكر حتى على فقير وولد ومدين ورقيق بلا إذن،ويلزم الذين على مسافة القصر المضي إليهم عند الحاجة بقدر الكفاية دفعا لهم فيصير فرض عين في حق من قرب وفرض كفاية في حق من بعد ) انتهى.
وعليه لا يشترط لمشروعية قتال إسرائيل في أرض لبنان أي شرط،فللمسلمين في كل بلدة أن يدفعوه بكل ما يقدرون من قوة،فالأمة منذ سقوط الخلافة العثمانية وهي لا دولة إسلامية تنتظمها ولا حكومة إسلامية لها توحدها وتحميها ومع ذلك لا يسقط حق أهل كل بلد في الدفاع عن وجودهم وأنفسهم وأرضهم وحرماتهم لعموم (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) وهذه الآية وأمثالها عامة مطلقة فللأمة القتال والدفاع عن نفسها ضد من اعتدى عليها مطلقا،وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى المصرية 4/508 (قتال الدفع عن الحرمة والدين واجب إجماعا فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان).
فالأمة اليوم من أكثر الأمم عددا وأكثرها مالا فلا يعتذر بعدم القدرة على مواجهة العدو ليسقط حكم وجوب الجهاد والقتال،فالأمة لم تؤت من قلة عدد وعدة بل من الوهن كما جاء في الحديث الصحيح(تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها. قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يارسول الله؟ قال : لا بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله المهابة من صدور أعدائكم،وليقذفن في قلوبكم الوهن حب الحياة وكراهية الموت).
ثالثا: أن العدوان الصهيوني على لبنان يشمل جميع أهل لبنان مسلمين ومسيحيين سنة وشيعة ولا يفرق العدوان بين طائفة وأخرى ولا يقتصر الضرر على طائفة دون أخرى،ومعلوم بأن للمسلمين في لبنان حق النصرة بنص القرآن كما قال تعالى (فإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) فالواجب على الأمة نصرة المسلمين المستضعفين حين يتعرضون للعدوان في أي مكان كما قال ابن حزم في المحلى 7/ 292(إلا أن ينزل العدو بقوم من المسلمين ففرض على من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم).
ولا شك بأنه يتأكد الوجوب إذا كان المسلمون الذين يتعرضون للعدوان في ثغر من الثغور التي تحيط بأرض الإسلام بحيث أن الخطر يتهدد الأمة من ورائهم كما يجري الآن في لبنان فإن سقوطها تحت سيطرة إسرائيل يمثل خطرا على الأمة كلها.
وأما غير المسلمين في لبنان فلهم على الأمة حقان حق الحليف وحق المظلوم فواجب نصرتهم ودعمهم والقتال معهم ودونهم لعموم قوله تعالى(وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان) فجعل القتال دفاعا عن المستضعفين والمظلومين كالقتال في سبيل الله كما في الحديث الصحيح (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ... ونصرة المظلوم) وقال صلى الله عليه وسلم (شهدت في الجاهلية حلفا لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت) وكان الحلف على نصرة المظلوم ودفع الظالم،وقد كان سبب فتح مكة أن قبيلة خزاعة كانوا حلفاء للنبي صلى الله عليه وسلم فاعتدت عليهم قبيلة بني بكر وكانوا حلفاء لقريش فاستغاثت خزاعة بالمسلمين وأرسلت عمرو بن سالم فقال النبي صلى الله عليه وسلم نصرت يا عمرو بن سالم ! فكان ذلك الحلف بين النبي صلى الله عليه وسلم وخزاعة سبب نقض صلح الحديبية وفتح مكة،وقد عاهد النبي صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب في المدينة على( أنهم أمة مع المؤمنين لهم دينهم وللمسلمين دينهم وأن لهم النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم وأنهم يقاتلون مع المسلمين من دهم يثرب).
والمقصود أن لبنان دولة عربية بينها وبين الدول العربية الإسلامية حلف وميثاق يوجب النصرة لها عند تعرضها للعدوان،وكذا هي عضو في منظمة المؤتمر الإسلامي،فيجب الوفاء بالعهود التي قامت على أساسها الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي،كما قال تعالى(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) كما أن شعبها يتعرض لظلم يوجب على الإنسانية كلها رفعه عنهم ونصرتهم وأحق الأمم بنصرهم الأمة الإسلامية للروابط والأسباب التالية:
الأولى: رابطة الرحم والنسب القومية،فلا يسقط حق غير المسلمين في لبنان لرابطة الدم والنسب والرحم التي تربطهم بالعرب المسلمين،كما قال تعالى(اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام)،وكما قال صلى الله عليه وسلم في شأن أقباط مصر(استوصوا بأهلها خيرا فإن لهم رحما).
والثانية: للحلف الذي بين لبنان والدول العربية الإسلامية الذي يوجب الوقوف مع شعبها كما ينص عليه ميثاق الجامعة العربية وهو حلف وعهد يجب الوفاء به شرعا فيما لا عدوان فيه ولا إثم كما قال تعالى(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعهود).
والثالثة :رابطة الأخوة الإنسانية التي توجب نصرة المظلوم وإغاثة الملهوف من أي أمة كانت كما قال تعالى(إنا جعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا) وهو ما أكدته المواثيق الدولية التي توجب نصرة الشعوب الضعيفة،وأحق الأمم بنصرة المظلوم الأمة الإسلامية التي وصفها القرآن بالخيرية كما قال تعالى(كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر) وأشد أنواع المنكر قتل النفس التي حرم الله قتلها كما قال تعالى(من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) فالواجب شرعا على الأمة منع العدوان والظلم من أي طرف يقع وعلى أي طرف وقع مسلما كان أو غير مسلم،وما يتعرض له الشعب اللبناني اليوم من عدوان إجرامي يوجب نصرتهم شرعا وعقلا وعرفا ومروءة،ولا يتصور أن تمنع الشريعة التي جاءت بالقسط والبر والرحمة بالخلق من نصرتهم،بل ذلك ينافي المروءة ومكارم الأخلاق التي جاء النبي صلى الله عليه وسلم ليكملها كما في الحديث(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)،وقد قال الله عنه(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).
والرابعة:روابط الأخوة الإيمانية التي تربط أكثر شعب لبنان بالأمة الإسلامية حيث يمثل المسلمون فيها أكثرية مطلقة ولا يسقط حقهم في النصرة تحت أي ذريعة.
ربعا : أن هذه القضية ليست نازلة جديدة بل سبق أن نزل في الأمة مثلها أو شبهها وأفتى علماؤها فيها كما حصل مع أهل قبرص فقد كانوا يقعون تحت حكم الروم وسيطرتهم لضعفهم ومع ذلك أوجب الفقهاء الوفاء لهم بعهودهم كما في فتوح البلدان 211-215 قال الأوزاعي (ما وفى لنا أهل قبرص قط وإنا لنرى أنهم على عهدهم،وأن صلحهم وقع على شيء فيه شرط لهم ألا يكتموا الروم أمر المسلمين) وقال يحي بن حمزة( كل أهل عهد لا يقاتل المسلمون من ورائهم وتجري عليهم أحكامهم في دارهم فليسوا أهل ذمة،لكنهم أهل فدية،يكف عنهم ما كفوا،ويوفى لهم بعهدهم ما وفوا ورضوا)،وقال إسماعيل بن عياش(أهل قبرص مقهورون يغلبهم الروم على أنفسهم فقد يحق علينا أن نمنعهم ونحميهم).
فإذا كان هذا حال أهل قبرص ولم يكونوا أهل ذمة ولا تربطهم بالعرب المسلمين رابطة دين ولا نسب ولا أرض بل كانوا أهل عهد مع المسلمين بفصلهم عنهم البحر وكانوا يقعون تحت نفوذ الروم وسيطرتهم ومع ذلك أفتى علماء الشام بوجوب حمايتهم ونصرتهم لما بينهم وبين المسلمين من عهود فمن باب أولى أهل لبنان التي هي ثغر من ثغور المسلمين منذ الفتح الإسلامي حتى سقوط الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى حيث سقطت دار الإسلام كلها،وأكثر أهل لبنان مسلمون،وغير المسلمين منهم عرب يرتبطون بالعرب المسلمين بنسب ورحم وبحلف وميثاق يوجب نصرتهم وقد قال تعالى(لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين).
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية عن جزيرة ماردين ـ لما استولى عليها الروم وأخذوها من أيدي المسلمين ـ فقال عن حكم مثل هذه الأرض كما في الفتاوى (28/240) :(أما كونها دار حرب أو دار سلم فإنها مركبة فيها المعنيان،ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين،ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار،بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه).
فجعل للمسلمين في ماردين حكم المسلمين في دار الإسلام وجعل أرضهم لما كان أكثر أهلها مسلمين قسما ثالثا لا دار إسلام ولا دار كفر مراعاة للشبه الذي يتجاذبها من صورة كلا الدارين.
هذا مع أن فقهاء الشافعية وغيرهم يرون وصف دار الإسلام لا يزول عن أي أرض صارت دار إسلام في يوم من الأيام ما دام فيها مسلمون.
خامسا :أنه لا يشترط لدعم الحليف الأقرب للمسلمين أن يكون مسلما فقد فرح المسلمون في مكة لنصر الروم على الفرس وبشرهم القرآن بذلك لكون الروم النصارى أقرب من الفرس المجوس الذين كان مشركوا مكة يتمنون نصرهم،كما فرح المسلمون في الحبشة لنصر النجاشي على عدوه لكونه ملكا عادلا آوى المسلمين،مع أنه لم يظهر إسلامه،وكان جيشه نصارى،وقد جاء في الحديث الصحيح في أخبار الفتن وأشراط الساعة أن المسلمين يقاتلون مع الروم قوما وعدوا لهم من ورائهم .
فإذا كان الأمر كذلك فوقوف المسلمين مع أهل لبنان ضد إسرائيل وفرحهم بنصرهم أمر مشروع معقول لرابطة الدم والحلف الذي بين لبنان وسائر العرب المسلمين،فكيف وأكثر شعبها مسلمون مظلومون مستضعفون!فالمنع من الدعاء لهم بالنصر على عدوهم أو المنع من الفرح لهم أمر لا تقبله الفطرة السليمة ولا العقول الحكيمة وهو من التكليف بما لا يطاق مما يتنافى مع الشريعة الإسلامية وأحكامها،فالأمة اليوم كلها تبتهج وتفرح بالنصر الذي يتحقق للمقاومة اللبنانية على إسرائيل العدو الأول للعرب والمسلمين وتدعو لهم بالنصر وتآزرهم لأن نصرهم نصر للأمة كلها،وهزيمتهم هزيمة للأمة كلها.
سادسا: أن وجوب دعم الشعب اللبناني ووجوب نصرته في محنته لا يسقط بالادعاء بأن الشيعة يقتلون السنة في العراق فهذه ذريعة باطلة وشبهة ساقطة فقد جاء في الحديث الصحيح(أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك)،فلا يسوغ في دين الله ترك المستضعفين في لبنان يقتلهم الجيش الصهيوني ويسفك دماءهم ويذبح أطفالهم ويهجرهم من ديارهم بمثل هذه الذريعة،وقد قال تعالى(ولا تزر وازرة وزر أخرى)،بل هذا القول جاهلية بغيضة،وهو ما لا يقبله عقل ولا شرع،ولا يسوغ أن يحمل الشيعة كلهم في لبنان جريرة بعض الشيعة في العراق وقد جاء في الصحيح(المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله)،وقال صلى الله عليه وسلم(أنصر أخاك ظالما أو مظلوما،فقالوا كيف ننصره ظالما؟فقال أن تأخذ على يده وتمنعه من الظلم فذلك نصرك له)،فالواجب شرعا منع اعتداء الشيعة في العراق على السنة ومنع السنة من الاعتداء على الشيعة،لا أن تجعل الفتنة في العراق سببا لضياع لبنان،وخذلان المستضعفين فيه،وسقوطه تحت الاحتلال الصهيوني الأمريكي كما حصل في العراق،وقد قال تعالى(وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالقسط إن الله يحب المقسطين . إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون).
وما يجري في العراق ـ من اقتتال طائفي وراءه الاحتلال الذي يدير أمور العراق ويعبث في أمنه واستقراره ويؤلب طوائفه بعضها على بعض ليظل متحكما فيه ـ لا يسقط وجوب نصرة المقاومة في لبنان تحت أي ذريعة،وكما في الأثر عن بعض السلف (ليس لنا فيمن عصى الله فينا إلا أن نطيع الله فيه)،فلا يجوز ترك نصرة أهل لبنان في قتالهم مع العدو الصهيوني،لكون أهل العراق يقتل بعضهم بعضا،ولا يجوز محاسبة شيعة لبنان الذين يقاومون الاحتلال الصهيوني والمشروع الأمريكي على جرائم بعض شيعة العراق الذين وقفوا مع الاحتلال هناك،فهذا من الظلم والعدوان الذي حرمته الشريعة تحريما قاطعا،ولا يتحمل أحد جريرة غيره وجريمته حتى وإن كان من طائفته أو عشيرته،كيف! وهذا الأمر الذي تواجهه الأمة أشد وأنكى ولا مجال فيه للنعرات الطائفية والعصبيات الجاهلية،فالأمة اليوم تواجه خطرا دوليا محدقا بها لا مخرج لها منه إلا برص الصفوف وتوحيد الكلمة ونبذ الخلاف.
سابعا: أن السياسة الشرعية تقضي الوقوف مع المقاومة اللبنانية مهما كان الموقف منها ومن قياداتها ـ في نظر البعض ـ إذ القتال الدائر بينها وبين إسرائيل لا يجعل مجالا للتوقف أو الحياد،فانتصار إسرائيل في حربها في لبنان هو نصر لها في أرض فلسطين،وكل نصر لها يعزز وجودها ومكانها في المنطقة كلها،وهزيمتها في لبنان هزيمة لها في فلسطين وفي المنطقة كلها،وهو ما لا يخفى على من له أدنى بصر وبصيرة سياسية وعسكرية،وهذا ما يدركه المجاهدون في أرض فلسطين وهو ما صرحوا به علانية،فالمقاومة اللبنانية لو لم تكن إسلامية لوجب الوقوف معها إذ ليس للأمة عدو أشد خطرا من إسرائيل وأمريكا،ولا أشد خطرا من مشروعهما الصهيو صليبي للسيطرة على العالم العربي والإسلامي،فلا يسوغ الوقوف على الحياد في مثل هذه الحرب التي تخوضها المقاومة الفلسطينية واللبنانية في آن واحد مع عدو واحد،ولا يمكن فك الارتباط بينهما لا سياسيا ولا عسكريا.
ثامنا: إن الحكم الشرعي إنما يقوم على الأدلة الشرعية ولا مدخل فيه للأهواء النفسية كالحب والبغض لهذا الطرف أو ذاك أو الرضا والسخط على هذا أو ذاك،وكما قال تعالى(ولا يجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) فالقول بأن دعم المقاومة الفلسطينية في حربها مع إسرائيل واجب مشروع،ودعم المقاومة اللبنانية محرم ممنوع،لا يقوم على أصل شرعي صحيح،فالتفريق بين الصورتين بحجة الخوف من التدخل الإيراني حجة واهية داحضة،إذ أن سوريا وإيران كلاهما تقفان مع المقاومة الفلسطينية واللبنانية وتدعمانهما سياسيا وماديا،فلم يبق إلا القول بأن المقاومة اللبنانية شيعية بينما المقاومة الفلسطينية سنية،وهذه أيضا لا تؤثر في الحكم الشرعي،إذ النصوص والأدلة الشرعية تعم الجميع ولا فرق في الأحكام الشرعية بين مسلم ومسلم،مهما اختلفت عقائدهم وطوائفهم ومذاهبهم،وما زالت الأمة تجاهد مع خلفائها وأمرائها وكان منهم المعتزلة والأشاعرة والشيعة،كالمأمون والمعتصم والواثق الذين كانوا معتزلة،وسيف الدولة الحمداني الذي تصدى للروم وحمى الخلافة والأمة طيلة مدة إمارته في الشام وكان شيعيا إماميا،وصلاح الدين الأيوبي الذي هزم الصليبيين وحرر المسجد الأقصى وكان سنيا أشعريا،وكذا يوسف بن تاشفين،وغيرهم من أبطال الإسلام على اختلاف عقائدهم،وما زالت الأمة تقاتل عدوها مع كل من قاتله ودافعه من الأمراء والقادة لا تلتفت لصلاحه وفجوره،ولا لمذهبه وطائفته،بل وصف الإسلام العام كاف في ثبوت وترتب كل هذه الأحكام،كما في الحديث الصحيح(من استقبل قبلتنا وصلى صلاتنا فذلك المسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم)،وكما في الحديث الآخر (المسلمون تتكافؤ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم)،وقال صلى الله عليه وسلم(حق المسلم على المسلم خمس )وقال (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله)،فكل هذه النصوص عامة يدخل تحت حكمها كل من ثبت له وصف الإسلام،وقد قال صلى الله عليه وسلم(أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتون الزكاة فإن فعلوا فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله)،وقال أيضا كما في الصحيحين(بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا)،وقال عن الإيمان(أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)فمن جاء بفرائض الإسلام واعتقد أركان الإيمان فقد ثبت إسلامه بيقين،له ما للمسلمين وعليه ما عليهم،لا يخرج من ذلك حتى يأتي منه ويثبت عنه ما يخرجه عن دائرة الإسلام يقينا من قول أو فعل أو اعتقاد لا تأويل له،ولا يخرج بالشبهة والظنة والإحنة،ولا يحكم على أحد من المسلمين إلا بما صدر عنه هو لا بما صدر عن غيره من أهل طائفته،ولا يؤاخذ أحد باعتقاد غيره أو فعله أو قوله من علماء طائفته ومذهبه،فمن ثبت إسلامه بيقين لم يزل عنه إلا بيقين،والله تعالى أعلم.
الجمعة
الموافق 5 / 8/ 2006م