"بطلان اشتراط وجود الإمام والراية لمشروعية
الجهاد في سبيل الله"
فتوى الشيخ أ.د. حاكم المطيري
منشورة في موقع بوابة العرب سنة ١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٤م
السؤال: فضيلة
الدكتور حاكم المطيري حفظه الله: هناك من يقول بأنه لا جهاد إلا بوجود إمام وراية
وإن ما سوى ذلك فهو قتال فتنة لا يعد من قتل فيه شهيدًا، وإنه يحرم قتال العدو إذا
احتل أرضا للمسلمين إذا لم يكن للمسلمين به طاقة، فما رأيكم في صحة هذا القول وفق أصول
الشريعة وأقوال فقهائها؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبيه الأمين وآله
وصحبه أجمعين وبعد:
هذا القول لا أصل له بإجماع الأئمة وسلف الأمة بل هو قول ظاهر البطلان
مصادم للنصوص القطعية والأصول الشرعية والقواعد الفقهية ومن ذلك:
1) أن النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تأمر بالجهاد في سبيل
الله ليس فيها اشتراط شيء من ذلك؛ بل هي عامة مطلقة والخطاب فيها لعموم أهل
الإيمان والإسلام؛ كما في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ
وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ﴾ وكما في قوله ﷺ: (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم) قال ابن حزم في المحلى
7/351/ (قال تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ﴾
وهذا خطاب متوجه إلى كل مسلم، فكل أحد مأمور بالجهاد وإن لم يكن معه أحد) انتهى
كلامه رحمه الله. وقال ابن قدامة في المغني 10/364: (الجهاد فرض على الكفاية...
الخطاب في ابتدائه يتناول الجميع كفرض الأعيان ثم يختلفان أن فرض الكفاية يسقط
بفعل بعض الناس له وفرض الأعيان لا يسقط عن أحد بفعل غيره).
وقال العلامة عبد الرحمن بن حسن بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (ولا
ريب أن فرض الجهاد باق إلى يوم القيامة والمخاطب به المؤمنون فاذا كانت هناك طائفة
مجتمعة لها منعة وجب عليها أن تجاهد في سبيل الله بما تقدر عليه لا يسقط عنها فرضه
بحال ولا عن جميع الطوائف) الدرر السنية 7/98.
2) انعقاد إجماع الأمة على أن الجهاد فرض كفاية المخاطب به أصلًا
الجميع حتى يقوم به من فيه كفاية وقدرة، فيسقط الوجوب حينئذ عن الباقين ما لم يصبح
فرض عين؛ كما قال شيخ المفسرين ابن جرير الطبري عن الجهاد في تفسيره 4/269 ط دار
الكتب العلمية: (هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه كفاية فيسقط فرض ذلك
حينئذ عن باقي المسلمين... وعلى هذا عامة العلماء المسلمين) انتهى.
وقال ابن عطية في تفسيره: (الذي استقر عليه الإجماع أن الجهاد على كل
أمة محمد ﷺ فرض كفاية فإذا قام به من قام من المسلمين سقط عن الباقين إلا أن
ينزل العدو بساحة الإسلام فهو حينئذ فرض عين) تفسير القرطبي 3/38.
3) أن الجهاد نوعان: جهاد الفتح وهو طلب العدو في أرضه فهذا النوع لا
يشترط لصحته وجود الإمام بل إذا كان الإمام قائمًا بالجهاد فإنه لا يسوغ الافتئات
عليه والتقدم إليه إلا عن إذن الإمام ورأيه؛ إذ الأمر موكول إليه فاستئذانه واجب،
لا شرط صحة؛ فيأثم من جاهد دون إذنه، وجهاده صحيح، فإن لم يكن هناك إمام أو فقد أو
قتل؛ فإن هذا الجهاد لا يتعطل، قال ابن قدامة في المغني 10/375: (فإن عدم الإمام
لم يؤخر الجهاد؛ لأن مصلحته تفوت بتأخيره وإن حصلت غنيمة قسمها أهلها على موجب
أحكام الشرع) فلو كان وجوده شرطًا لصحة الجهاد لوجب تعطيل الجهاد وتأخيره حتى يوجد
الإمام، ولما ساغ المضي فيه بدعوى المصلحة، ولما حلت الغنيمة.
وكذا إذا كان الإمام موجودًا إلا أنه تعذر، على أهل الجهاد استئذانه
فإن لهم أن يمضوا دون إذن الإمام مراعاة للحاجة، قال ابن قدامة في المغني 10/390:
(لا يخرجون إلا بإذن الأمير؛ لأن أمر الحرب موكل إليه إلا أن يتعذر استئذانه
لمفاجأة عدوهم لهم؛ فلا يجب استئذانه لأن المصلحة تتعين في قتالهم والخروج إليهم
لتعين الفساد في تركهم) انتهى. فلو كان وجود الإمام وإذنه شرطًا لصحة جهاد الطلب؛
لما صح الجهاد في حال عدم وجوده، ولما صح مع وجوده دون إذنه عند الحاجة، إذ الشرط
ما يلزم من عدمه العدم، وهنا لم يبطل الفقهاء جهاد الطلب في هاتين الحالتين، فدلّ
على أن وجوده ليس شرطًا لصحة هذا النوع من الجهاد، بل المراعى في الحالتين؛ تحقق
المصلحة ودفع المفسدة؛ كما علل بذلك ابن قدامة.
أما النوع الثاني: وهو جهاد الدفع عن أرض المسلمين فالأمر فيه أوضح
وأجلى؛ إذ لا يشترط له أي شرط إطلاقًا، بل على كل أحد الدفع بما استطاع، فلا يستأذن
الولد والده، ولا الزوجة زوجها، ولا الغريم غريمه، وكل هؤلاء أحق بالإذن والطاعة
من الإمام، ومع ذلك سقط حقهم في هذه الحال؛ إذ الجهاد فرض عين على الجميع، ومعنى
فرض العين أن يصبح كل مكلف قادر على القيام به مخاطبا به؛ كما فرض الصوم، وفروض
الصلوات الخمس، وكل فروض الأعيان. يجب على المسلم أداؤها دون نظر إلى إذن غيره،
كما لا يستأذن المسلم أحدا في أداء فرض الصوم والصلوات الخمس، فلا يشترط له إذن
إمام فضلًا عن وجوده، ولا طاعة للإمام أصلا لو أراد المنع من أداء فرض العين للنص
والإجماع أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في
الفتاوى المصرية 4/508: (أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعًا؛ فالعدو
الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه، فلا يشترط له
شرط بل يدفع بحسب الإمكان) وقال أيضًا: (وإذا دخل العدو بلاد الإسلام؛ فلا ريب أنه
يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب
النفير إليها بلا إذن والد ولا غريم)، وقال ابن حزم في المحلي 7/292: (إلا أن ينزل
العدو بقوم من المسلمين؛ ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثًا لهم)،
وقال الجصاص في أحكامه 4/312 : (معلوم في اعتقاد جميع المسلمين أنه إذا خاف أهل
الثغور من العدو، ولم تكن فيهم مقاومة فخافوا على بلادهم وأنفسهم وذراريهم؛ أن
الفرض على كافة الأمة أن ينفر إليهم من يكف عاديتهم عن المسلمين، وهذا لا خلاف فيه
بين الأمة)، وعلى كل من استطاع دفع العدو وقتاله القيام بذلك بكل ما استطاع كما في
كتاب "إعانة الطالبين" في فقه الشافعية: (وإن دخلوا أي الكفار بلدة لنا
تعين الجهاد على أهلها أي يتعين على أهلها الدفع بما أمكنهم وللدفع مرتبتان:
إحداهما أن يحتمل الحال اجتماعهم وتأهبهم للحرب، فوجب الدفع على كل
منهم، بما يقدر عليه، حتى على من لا يلزمه الجهاد، نحو فقير، وولد، ومدين، وعبد،
وامرأة فيها قوة، بلا إذن ممن مر [يعني الزوج والوالد والدائن والسيد].
ويغتفر ذلك لهذا الخطب العظيم الذي لا سبيل لإهماله.
وثانيتهما أن يغشاهم الكفار ولا يتمكنون من اجتماع وتأهب، فمن قصده
كافر أو كفار وعلم أنه يقتل إن أخذه فعليه أن يدفع عن نفسه بما أمكن، وإن كان ممن
لا جهاد عليه لامتناع الاستسلام لكافر).
وقال الشارح: (قوله: الدفع بما أمكنهم أي بأي شيء أطاقوه، ولو بحجارة
أو عصا... قوله: فوجب الدفع مطلقا من غير تقييد بشيء..).
وقال الخطيب الشربيني الشافعي في الإقناع 2/510 (الحال الثاني من حال
الكفار أن يدخلوا بلدة لنا فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم ويكون الجهاد حينئذ فرض
عين).
وهذا هو معنى كونه فرض عين، فلو كان يشترط له شروط صحة كوجود إمام أو
إذنه؛ لما كان فرض عين في حال هجوم العدو على المسلمين، وهو ما لم يقل به أحد من
علماء الأمة، ولذا قال الماوردي: (فرض الجهاد على الكفاية يتولاه الإمام ما لم
يتعين).
4) أن كتب الفقهاء قد نصت في كتاب الجهاد على شروط وجوبه وعلى من يجب
ومتى يتعين، وليس فيها نص على اشتراط وجود الإمام أو وجود الراية، وقد ثبت في
الحديث الصحيح: (ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله من اشترط شرطًا
ليس في كتاب الله فهو باطل).
وقد قال العلامة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في بيان
بطلان هذا الشرط: (بأي كتاب أم بأي حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع؟ هذا من
الفرية في الدين والعدول عن سبيل المؤمنين والأدلة على بطلان هذا القول؛ أشهر من
أن تذكر من ذلك عموم الأمر بالجهاد والترغيب فيه والوعيد في تركه) الدرر السنية
7/97.
وقال صديق حسن خان في الروضة الندية (333) عن الجهاد: (هذه فريضة من
فرائض الدين أوجبها الله على عباده من المسلمين من غير تقيد بزمان أو مكان أو شخص
أو عدل أو جور).
فالجهاد ماض إلى قيام الساعة سواء وجد إمام أو لم يوجد، وسواء وجدت
هناك راية أو لم توجد.
وقد استدل شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم كما في الزاد 3/309 وعبد
الرحمن بن حسن وغيرهم من الأئمة بقصة أبي بصير وجهاده المشركين بمن معه من
المؤمنين وقطعهم الطريق عليهم حتى قال النبي ﷺ في شأنه: (ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال) ولم يكن أبو بصير تحت
ولاية النبي ﷺ، ولا في دار الإسلام، ولم يكن إمامًا، ولم تكن معه راية؛ بل كان يغير
على المشركين ويقاتلهم ويغنم منهم، واستقل بحربهم؛ ومع ذلك أقره النبي ﷺ وأثنى عليه، قال عبد الرحمن بن حسن كما في الدرر السنية 7/97 مستدلًا
بهذه القصة: (فهل قال رسول الله ﷺ
أخطأتم في قتال قريش لأنكم لستم مع إمام سبحان الله ما أعظم مضرة الجهل على أهله؟)
انتهى.
5) إن إقامة الإمام حكم واجب كوجوب إقامة الجهاد؛ فيجب على المجاهدين
أن يقيموا إمامًا منهم إن لم يكن هناك إمام عام، وليس وجود الإمام شرطًا في وجود
الجهاد، بل العكس هو الصحيح؛ إذ إقامة الجهاد شرط لصحة إمامة الإمام، فلا إمام بلا
جهاد، لا أنه لا جهاد بلا إمام؛ كما قال العلامة عبد الرحمن بن حسن: (كل من قام
بالجهاد في سبيل الله؛ فقد أطاع الله، وأدى ما فرضه الله، ولا يكون الإمام إمامًا
إلا بالجهاد إلا أنه لا يكون جهاد إلا بإمام) الدرر السنية 7/97. ومعلوم أن أول
واجبات الإمام: حماية البيضة وإقامة الدين، فإن كان عاجزًا عن الجهاد وحماية الأمة
والملة؛ فقد خرج عن أن يكون إمامًا، بل صار وجوده وعدمه سواء، فإن حال بين
المسلمين والدفع عن أنفسهم وأرضهم وحرماتهم؛ كان عدمه خيرًا من وجوده وبطلت إمامته
شرعًا، إذ لم يتحقق المقصود من إقامته، وقد جاء في الصحيح: (إنما الإمام جنة يقاتل
من ورائه ويتقى به) فيجب إقامة الإمام؛ ليكون جنة ووقاية، يحمي الأمة ويحفظها،
وتقاتل الأمة من ورائه، فإن صار جنة للعدو؛ لم يكن قطعًا إمامًا للمسلمين في حكم
الشارع، وإن كان إمامًا بحكم الأمر الواقع، قال الشوكاني في وبل الغمام: (ملاك أمر
الإمامة وأعظم شروطها وأجل أركانها أن يكون قادرًا على تأمين السبل وإنصاف
المظلومين من الظالمين، ومتمكنًا من الدفع عن المسلمين إذا دهم أمر يخافونه كجيش
كافر أو باغ، فإذا كان السلطان بهذه المثابة؛ فهو السلطان الذي أوجب الله طاعته
وحرم مخالفته؛ بل هذا الأمر هو الذي شرع الله له نصب الأئمة وجعل ذلك من أعظم
مهمات الدين) إكليل الكرامة لصديق خان 114-115.