المفتون والمفتونون
بقلم د. حاكم المطيري
الأمين العام للحركة السلفية
2005
لم يكتف أعداء الأمة بتجريدها من جميع أسباب القوة المادية بل تجاوزا إلى التدخل في جميع شئونها الداخلية وتوجيه ثقافتها بتعديل وتغيير مناهجها الدراسية وكنا نظن أن الأمر سيقف عند هذا الحد فإذا بهم يصلون إلى آخر حصون الأمة الإسلامية وهي مساجدها ليكتشف المسلمون أنهم باتوا تحت وطأة الاستعمار الجديد بجميع أشكاله العسكرية والسياسية والثقافية ؟ وليست الخطورة في الاستعمار ذاته بل الخطورة هي في قابلية الأمة له ومبادرة فريق منها إلى إضفاء الشرعية على جميع أهداف الاستعمار ومخططاته ومسارعة أصحاب العمائم إلى إصدار الفتاوى التي تبرر كل انحراف ليضيعوا الدين كما أضاعوا الدنيا؟!
لقد تفاجأ الجميع بفتوى وزارة الأوقاف وفتوى لجنة جمعية إحياء التراث الإسلامي حول جواز منع المسلمين في مساجدهم من الدعاء على أعدائهم والأدلة على بطلان هذه الفتوى السياسية أشهر من أن تذكر ومن ذلك:
أولاً: أن الدعاء عبادة بل هو العبادة كما في الحديث الصحيح والأصل في العبادات الإتباع لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وليس لذي سلطان ولا عالم الحق في التدخل فيها بأي نوع من أنواع التشريع أو التقييد أو الحظر.
ثانياً: أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة الكثيرة أنه كان يدعو على أعدائه كما في دعائه على الأحزاب (اللهم منزل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب وزلزلهم) كما ثبت عنه أنه كان يقنت في الصلاة ويدعو للمستضعفين من المؤمنين ويدعو على الكافرين وقد بوب البخاري في صحيحة باب (الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة) فالدعاء ـ خاصة في النوازل والكوارث سنة ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم فللمسلمين الاقتداء به.
ثالثاً: أن الله عز وجل أمر عباده بدعائه فقال (ادعوني أستجب لكم) وقال (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) والمسلمون اليوم في حال اضطرار وقد تكالبت عليهم الأحزاب فكيف يمنعون حتى من الدعاء وقد قال ابن المنذر (غير جائز حظر شيء من الدعاء بغير حجة).
رابعاً: أن القنوت في الوتر في رمضان وفي صلاة الفجر كما عند الشافعية مطلقاً وعند غيرهم في النوازل سنة ويستحبون في دعاء القنوت دعا عمر بن الخطاب الصحيح عنه أنه قنت بعد الركوع في الفجر فقال (اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يكذبون رسلك ويقاتلون أولياءك ويصدون عن سبيلك اللهم خالف بين كلمتهم وزلزل أقدامهم).
وليس لأحد أن يمنع الشافعية وغيرهم ممن يرون القنوت مطلقاً أو في النوازل من الدعاء بما يرونه سنة تحت ذريعة المصلحة إذ هذا انتهاك خطير لحقوقهم الدينية في أخص خصائصها ألا وهي الصلاة وكيفيتها.
خامساً: أن هذا الدعاء يكون في المساجد ومعلوم أن المواثيق الدولية تجعل لجميع المعابد حرمتها وليس للمسلمين الحق في الشريعة الإسلامية أن يمنعوا أهل الكتاب أن يقولوا في معابدهم ما شاءوا من كفر وشرك بالله فكيف يسوغ منع المسلمين من أن يدعو الله في مساجدهم بما شاءوا من الدعاء؟!!
سادساً: أن الله عز وجل قد أذن للمظلوم أن يجهز بقول السوء في حق من ظلمه كما هو مفهوم قوله تعالى (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) والمسلمون اليوم يتعرضون لأشد أنواع الظلم والاضطهاد والقتل والتشريد فلهم الحق أن يدعوا على من ظلمهم فليس لأحد أن يصادر عليهم هذا الحق الذي هو أدنى الحقوق وليس ذلك من المباح الذي يمكن مصادرته لمصلحة راجحة بل هو حق من حقوق المظلوم.
سابعاً: أن قياس الدعاء على السب والشتم الذي نهى الله عنه في قوله تعالى "ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم" قياس فاسد الاعتبار مصادم للنصوص فالدعاء عبادة عظيمة يتقرب به المسلمون إلى الله كما في الحديث (الدعاء هو العبادة) وهو من أعظم أسباب رفع البلاء.
أما السب والشتم فليس كذلك ولا مصلحة فيه فقياس أحدهما على الآخر قياس ظاهر البطلان.
ثامناً: أن هذه الفتوى تقتضي المنع من الجهر بالآيات القرآنية التي فيها لعن للذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين إذ لا فرق بين أن يدعو الإمام عليهم أو أن يقرأ جهراً بالآيات التي فيها دعاء عليهم كما يلزم أيضاً مراعاة للمصلحة المزعومة منع تلاوة هذه الآيات في التلفاز والإذاعة حتى لا تفسد العلاقات بيننا وبينهم وكذلك يسوغ على هذه الفتوى المنع من تدريس أبناء المسلمين في مدارسهم ومعاهدهم الآيات والأحاديث التي فيها بيان لكفرهم وشركهم وفيها لعن لهم؟!
فإذا لم يلتزم أصحاب الفتوى بهذا اللوازم فقد تناقضوا إذا لم تتحقق المصلحة التي زعموها وإذا التزموا بهذه اللوازم ورأوا جواز المنع من قراءة آيات القرآن وتعليمها فقد خرجوا من ربقة الإسلام.
تاسعاً: أن هذه المصلحة التي يرجو أصحاب الفتوى تحققها من هذا المنع تقابله مفسدة أرجح منها وأكبر وتتمثل في فقد ثقة المسلمين بمن يصدرون هذه الفتاوى وبمن وراءها من ذوي السلطان وإثارة الشقاق والفتنة بين المسلمين أنفسهم بعد أن أصبحت هذه الفتاوى تصدر وفق الأهواء السياسية التي توجهها القوى الدولية التي ترى ضرورة تغيير ثقافة الأمة الإسلامية لصالح الثقافة الغربية التي تنضح بالحقد والاستخفاف والطعن بالإسلام ورسوله وبالقرآن وبالحضارة الإسلامية وبالمسلمين كما صرح بذلك كثير من زعمائهم وما يقولونه في معابدهم ومراكزهم العلمية أشد وأنكى في حق الإسلام والمسلمين.
عاشراً: أن في هذه المبادرة فتحاً للباب على مصراعيه للتدخل في شئون المسلمين في مساجدهم وعباداتهم وقاعدة سد الذريعة تقتضي حظر تدخل الحكومات في مثل هذا الأمر لا العكس.
الحادي عشر: ما هو الهدف من إصدار هذه الفتوى هل هو حث الأئمة على العمل بها دون إلزام أم الهدف إلزامهم بذلك؟ وما هي العقوبة التي ستتخذ بحق من خالف الفتوى؟ ومعلوم وبإجماع المسلمين أنه ليس لأحد أن يلزم أحداً بطاعته فيما هو من مسائل الخلاف فكيف يسوغ إلزام أئمة المساجد بما هو مصادم للسنة الصحيحة ولما هو مشروع بإجماع الأئمة ؟! وكيف يعاقب من اقتدى بالنبي صلى الله عليه وسلم في دعائه على المشركين الظالمين واستنصاره للمؤمنين المستضعفين؟ قال شيخ الإسلام ابن تيمية (فرض الله عز وجل على ولاة أمر المسلمين إتباع الشرع وهو الكتاب والسنة فإذا تنازع بعض المسلمين في شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من أحد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمر أن يلزموه بإتباع حكم حاكم .... وهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته).
الثاني عشر: أن هذه الفتاوى لم تخرج إلا في هذه الفترة التي تم فيها إحكام الطوق على المسلمين مما يثير الشك فيها وفي أهدافها ويجعلها في سياق المؤامرة الدولية على الأمة الإسلامية وللحديث بقية.