رد المطيري على الأنصاري
المجلة الثقافية السعودية الصادرة في لندن
سنة 1998
بقلم حاكم المطيري جامعة برمنجهام
الحمد
لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد بن عبد الله النبي العربي
العدناني وآله وأصحابه أجمعين وبعد فقد قرأت مقابلة (الثقافية) عدد 31 مع
د. عبد الرحمن الأنصاري التي تطرق فيها لبعض القضايا التاريخية واللغوية،
وقد تفاجأت بما ورد فيها من أخطاء علمية ومنهجية خطيرة لعل أخطرها نفي وجود
(عدنان) وهو أحد أجداد النبي صلى الله عليه وسلم
المجمع على إثباته في نسبه الشريف بين علماء النسب وعلماء التاريخ جميعاً،
وكذلك دعواه أن قواميس اللغة العربية ليس فيها سوى لغة القبائل الشمالية-
أي العدنانية- وأما القبائل اليمانية فقد حالت الحواجز النفسية دون
كتابتها؟!!
إلى غير
ذلك من الآراء التي لم يستطع د. الأنصاري إقامة أي دليل علمي على صحتها سوى
الظنون والتخرصات وهذه عبارات د. الأنصاري مع بيان ما فيها من أخطاء:
1- قال
د. الأنصاري: (حكاية قحطان وعدنان مشكلة أخرى ليس هناك شيء اسمه قحطان
وعدنان من وجهة نظري لأن قحطان لم يظهر في أي من النصوص حتى في النصوص
السبئية عندما تقرأها لن تجد لفظ قحطان أول مرة ذكر قحطان في القرن الثالث
الميلادي في قرية (الفاو) قبل ذلك لم يرد في أي نص من نصوص الجنوب في اسم
قحطان)؟!
وهذه عبارة
ينقض آخرها أولها فبينما ينفي د. الأنصاري أولاً وجود شيء اسمه قحطان لعدم
وجود أي نص أثري يدل عليه إذا هو يثبت وجود نص أثري في القرن الثالث
الميلادي – أي قبل الإسلام – بـ (300) سنة تقريباً – يذكر اسم قحطان؟!
والسؤال
الذي يطرح نفسه: ما هو المشكل على د. الأنصاري في موضوع قحطان وعدنان؟ وما
هو سبب ودواعي هذا الإشكال؟ وما هي الثمرة والنتيجة التي يمكن أن تترتب على
طرح مثل هذه القضية والشك فيها أو نفيها بكل هذا الحماسة؟ بالطبع لا يمكن
أن يدعي د. الأنصاري أنه اكتشف جميع الأثريات الموجودة ليصل إلى نتيجة
قطعية، كما أنه لا يمكن له أن يدعي أن الأوائل قد كتبوا كل شيء على هذه
الأثريات، وكذلك – أيضاً- لا أظنه يشترط لإثبات أي قضية تاريخية أن يوجد
أثر مادي يدل عليها وإلا لما كان هناك – أصلاً- داع لعلم التاريخ ولما كان
هناك داع لعلم الحديث وعلم اللغة وجميع العلوم التي تقوم أساساً على
(الخبر) الذي هو من أهم وأخطر وسائل المعرفة الإنسانية شأنه في ذلك شأن
العقل والحس والتجربة فعن طريق الأخبار يتلقى الطلبة والدارسون العلوم
والمعارف من أساتذتهم في المدارس والكليات والجامعات وعن طريق (الأخبار)
تقوم حياة المجتمعات الإنسانية السياسية والاقتصادية والقضائية ... الخ.
بل إننا لا
يمكننا أن نستفيد من أي معلومة تاريخية مكتوبة على الأثريات إلا عن طريق
(أخبار) الآثاريين لنا بأن معنى المكتوب هو كذا وكذا، فإذا كان الحجر
الأثري مصدراً معرفياً مادياً بالنسبة لعلماء الآثار فإنه بالنسبة لغيرهم
ليس كذلك وإنما مصدرهم المعرفي هو (إخبار) الآثاريين لهم.
وكما هو
معلوم فإن (الأخبار) تحتمل الصحة والخطأ كما هو شأن (العقل) والحس والتجربة
فكل هذه الوسائل المعرفية غير معصومة عن الخطأ إلا أن ذلك لا ينفي عنها
كونها مصدراً للمعلومة اليقينية في كثير من الأحيان.
وإذا كان الأمر كذلك فعلى أي أساس علمي ينفي د. الأنصاري وجود قحطان وعدنان؟
فما دام
المؤرخون العرب قد أجمعوا على هذه القضية التاريخية، وما دام علماء النسب
قد أجمعوا على وجود هذين الجدين اللذين تنتسب لهما القبائل العربية، وما
دام قد ثبت وجود اسم قحطان على حجر أثري منذ القرن الثالث الميلادي فما هي
الشبهة التي عرضت لـ د. الأنصاري حتى نفى – جازماً- وجود عدنان وقحطان؟
لقد نسي د.
الأنصاري أن هذه القضية هي من القضايا المتواترة تواتراً قطعياً يقينياً
كتواتر وجود (قصي بن كلاب) و(فهر بن كنانة) من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم ،
بل وأكثر لأن من ينتسب إلى عدنان وقحطان هم أكثر عدداً – بما لا مجال
للمقارنة معه – ممن ينتسبون إلى (قصي بن كلاب) أو (فهر بن كنانة).
كما نسي
د.الأنصاري أن موضوع الأنساب يختلف بطبيعته عن موضوع التاريخ عموماً،
والخوض فيه أخطر فهو يمس كل عربي حياً كان أم ميتاً ممن ينتسب إلى هذين
الجدين إنه لو ذكر عربي واحد في سلسلة نسبه اسم قحطان أو عدنان لكان ذلك
كافياً في إثبات وجود هذين الاسمين فكيف وبين أيدينا آلاف الشخصيات
المذكورة في كتب الرجال والتاريخ من الصحابة ومن قبلهم وبعدهم من أهل
الجاهلية والإسلام وكلهم معروف بنسبة أباً عن جد إلى أحد هذين الجدين؟!
إن العرب –
بالذات – من أعلم الأمم وأحرصها على أنسابها حتى كان (للنسب) أكبر الأثر
في مجريات حياتهم الاجتماعية كما في تزاوجهم وحروبهم وثاراتهم.
ولهذا
رأينا قبيلتي (عبس)و(ذبيان) تجتمعان على جد واحد وهو (بغيض بن ريث بن
غطفان) لا يختلف في ذلك عبسي ولا ذبياني ولا يخالفهما في ذلك عربي.
ورأينا
قبيلة (أشجع) تنتسب إليهما بـ (ريث بن غطفان) ثم يجتمع (بنو عبد الله) معهم
في (غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان) فهذه القبائل أخوة من دون العرب. ثم لا يختلف (القرشي) و(التميمي) و(الغطفاني) في
أنهم أخوة يجتمعون في (مضر بن نزار بن معد بن عدنان) ولا يزال الرجل منهم
يعد أباءه أباً أباً حتى يصل إلى (مضر) ويلتقي في كل أب مع أخوه آخرين
يشاركونه في هذا الأب.
ثم نجد
(التغلبي) و(البكري) يجتمعان في (وائل) وهم أخوة من دون سائر العرب بلا
خلاف بينهم في ذلك ثم يلتقون بـ (عنزة بن أسد) في (أسد بن ربيعة بن نزار)
وكلهم (ربعي) بلا خلاف ثم يجتمع هؤلاء مع (المضرية) في (نزار) لا يختلف في
ذلك اثنان، مع اختلافهم وتباعد ديارهم، وكثرة عددهم فكلهم يعرف من هو
الأقرب إليه نسباً والأولى به رحما، وعلى هذا يتوارثون ويثأرون.
وما ذكرته
في (العدنانية) موجود أيضاً في (القحطانية) فكل قبيلة (قحطانية) تعرف من
أقرب القبائل إليها نسباً وفي أي جد تلتقي معه، وهكذا إلى (قحطان)، كـ
(غامد) و(زهران) وغيرهما من قبائل (الأزد) وإلا فما هو التفسير العلمي
لادعاء كل هذه القبائل العربية – من أقصى شمال الجزيرة إلى أقصى جنوبها-
مثل هذه الأنساب؟
وكيف تم
اختراع كل هذه السلاسل النسبية؟ ولماذا تنتسب بعض القبائل الشمالية إلى
(قحطان) وبعض القبائل الجنوبية إلى (عدنان) ما دام الموضوع كله لا أساس له
من الصحة؟
فإن قال د.
الأنصاري: أنا لا أنفي وجود نسب وصلة دم بين القبائل العدنانية، وكذلك
وجود نسب بين القبائل القحطانية وإنما أنفي وجود اسم عدنان وقحطان بالذات.
فالجواب
هو: أن هذا النفي لا معنى له حينئذ ما دامت قد ثبتت وحدة الدم والأخوة بين
القبائل التي يطلق عليها (أبناء عدنان) وبين القبائل التي يطلق عليها
(أبناء قحطان) فلا يهم بعد ذلك اسم الجد الذي تنتسب إليه هذه القبائل
مادامت قد ثبت أنها فعلاً- تعود في أصولها إلى جد واحد وليسمه د. الأنصاري
ما يشاء.
ويكفي عن هذا كله ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما
في صحيح البخاري – حديث برقم (3500) – (لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من
قحطان يسوق الناس بعصاه) ـ وانظر فتح الباري (6/618) ط الريان ـ وثبت كذلك
أن الصحابة كانوا يعدون نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدنان كما في عيون الأثر (1/73) ط. دار التراث.
وعلى هذا أجمع علماء الإسلام في نسب النبي صلى الله عليه وسلم
أنه (محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب
بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس
بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان).
وقد ساق البخاري في صحيحة هذا النسب النبوي الشريف في (باب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم )
كما في الفتح (7/199) وقال ابن سيد الناس في كتابه عيون الأثر (1/73) ط،
دار التراث: (هذا هو الصحيح المجمع عليه في نسبه ولا خلاف في أن عدنان من
ولد إسماعيل بن إبراهيم وإنما الخلاف في عدد ما بين عدنان وإسماعيل من
الآباء).
وقال ابن
القيم في الزاد (1/71): (إلى ها هنا معلوم الصحة متفق عليه بين النسابين
ولا خلاف فيه البتة) وكذا قال الحافظ ابن حجر في الفتح (6/611) وذكر قول
ابن عباس (مات عدنان وابنه معد وربيعة ومضر وقيس وتميم وأسد وضبة على
الإسلام) وذلك قبل طروء الشرك على أبناء إسماعيل.
وقالت عائشة رضي الله عنها: (ما وجدنا أحداً يعرف ما وراء عدنان ولا قحطان إلا تخرصاً). وقالت: (انتهى الناس في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدنان) كما في عيون الأثر (1/73).
والمقصود أنه لا خلاف بين أهل الإسلام قاطبة منذ عصر الصحابة أن الرسول صلى الله عليه وسلم عدناني
قرشي هاشمي وهذا من المعلوم من دين الإسلام بالضرورة القطيعة ومعرفة ذلك
واعتقاده من شروط شهادة (أن محمداً رسول الله) فمن ظن أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس
من العرب أو ليس عدنانياً أو ليس قرشياً أو ليس هاشمياً فما جاء بالشهادة
على وجهها وانظر كلام بن حزم – كما في الفتح (6/609) – في هذا الموضوع
لتعلم خطورة هذه القضية وأنها من مسائل الاعتقاد.
وقد روى
مسلم في صحيحة برقم (2276): (أن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى من
كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم).
2- قال
د. الأنصاري: (التاريخ العربي كتبه القحطانيون المؤرخون، الهمداني وغيره
هم الذين كتبوا هذا التاريخ وقسموا العرب إلى بائدة وعاربة ومستعربة .. هذا
التقسيم سياسي وليس تقسيماً نسبياً)؟!
وهذا رأي
جمع فيه د. الأنصاري بين الطرافة والظرافة والغرابة ولا ندري ما دخل
السياسة في هذا التقسيم فقد كانت الخلافة الإسلامية مدة عشرة قرون –
تقريباً – في قريش وهي قبيلة (عدنانية) وراج سوق التأليف في عصر الخليفة
العباسي هارون الرشيد ومن بعده ولا نعلم أن أحداً اعتراض على هذا التقسيم
أو ادعى أنه لأغراض سياسية قبل د. الأنصاري.
بل إن عمر
بن الخطاب رضي الله عنه لما وضع الدواوين جعلها على الأنساب وبدأ بآل البيت
ثم الأقرب لهم من بني (عبد مناف) ثم الأقرب في (قصي) ثم في (فهر) ثم أقرب
القبائل (المضرية) لـ (قريش) ثم القبائل العدنانية ثم (القحطانية) قال ابن
حزم ( ما فرض عمر رضي الله عنه الديوان إلا على القبائل ولولا علم النسب ما
تخلص له ذلك وقد تبعه على ذلك عثمان وعلي وغيرهما) (انظر فتح الباري
(6/160) ثم من قال بأن الذين كتبوا التاريخ هم أهل اليمن فقط؟ إن الشعر
العربي الذي هو (ديوان العرب) وحافظ أيامها وأنسابها وتاريخها أكثره
للشعراء العدنانيين من ربيعة ومضر، والذين اعتنوا بالتأليف في التاريخ
ابتداءً من فترة ما بعد الإسلام هم من قريش كـ عروة بن الزبير (ت93هـ)
والزهري (ت127هـ) وعنه أخذ محمد بن إسحاق السيرة والمغازي وكذا أخذها عنه
أيضاً موسى بن عقبة ثم المؤرخ الكبير محمد الواقدي وعنه ابن سعد وعلى
مؤلفات هؤلاء اعتمد من جاء بعدهم.
وأما أن
العرب تنقسم إلى بائدة وعاربة ومستعربة فهذا تقسيم اصطلاحي، ولا مشاحة في
الاصطلاح، لأن العرب منهم قبائل بائدة لم يبق منها أحد ينتسب إليها كعاد
وثمود وطسم وجديس، فهذه يصدق عليها وصف (بائدة) لعدم وجود من ينتسب إليها.
ومن العرب
قبائل هي من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ومعلوم أن إبراهيم قد
وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر في مكة عند البيت الحرام، وقطعاً كانت هناك
قبائل عربية موجودة قبل مجيء إسماعيل وفيهم نشأ ومنهم تزوج وهؤلاء هم العرب
(العاربة) اصطلاحاً وذرية إسماعيل هم العرب (المستعربة) اصطلاحاً أيضاً –
غير أن هذا لا يعني أن ذرية إسماعيل ليسوا عرباً فهذا ما لم يقله أحد، وأما
ما استنتجه د. الأنصاري من أن هذا يعني أن العدنانيين ومنهم الرسول (ليس
عرباً) فهو استنتاج خاطئ لأن اسم العرب يشمل الأقسام الثلاثة عند من يقول
به، والمؤرخون العدنانيون القدماء لم يجدوا في هذا التقسيم غضاضة لأنه
تقسيم مطابق للحقيقة والواقع.
وأرى –
والله أعلم – أن أصول النبي إبراهيم – جد العرب المستعربة – تعود إلى
الجزيرة العربية لأن أرضه كانت العراق والقبائل والشعوب التي كانت تسكن أرض
الرافدين قديماً ترجع – كما تؤكده الدراسات التاريخية الحديثة – إلى
الجزيرة العربية التي كانت موطناً أصلياً لهذه الشعوب والقبائل قبل أن
تهاجر إلى العراق بسبب الجدب. ومما يؤكد ذلك معرفة إبراهيم وارتباطه بمكة
كما في قوله تعالى في دعاء إبراهيم (رب إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع
عند بيتك المحرم).
ثم في
زيارته وتردده على ابنه إسماعيل بعد أن كبر وتزوج – كما في صحيح البخاري
(3365) ـ كل ذلك يؤكد أن إبراهيم لم يكن غريباً عن هذه الأرض وعن البيت
الحرام الذي كان موجودا قبل أن يعيد إبراهيم بناءه على القواعد وكأن
إبراهيم عليه السلام بمجيئه بابنه إسماعيل إلى هذه الأرض إنما كان يقصد
إحياء هذا البيت الذي هاجر عنه الناس وتركوه طلباً للرزق والعيش، ولا يبعد
أن يكون قوم إبراهيم هم الذين تركوه ورحلوا إلى العراق بعد أن صار غير ذي
زرع.
وعلى هذا فإسماعيل وذريته عرب غير أنهم جاؤوا من خارج الجزيرة العربية بعد هجرة أسلافهم منها فهم مستعربة على هذا الأساس.
وعلى كل
حال لا خلاف بين المؤرخين في أن إسماعيل وذريته – وهم أبناء عدنان – عرب
ولا دخل للسياسة في تقسيم العرب إلى عاربة ومستعربة بل هو تقسيم اصطلاحي
علمي.
هذا مع
العلم أن المؤرخين وعلماء النسب القدماء مختلفون أيضاً في الرابطة بين
عدنان وقحطان فمنهم من يقول بأن قحطان هو من ذرية إسماعيل – أيضاً – وهو أخ
لعدنان بخلاف القبائل اليمنية القديمة الأخرى، وهذا القول هو الراجح
ويؤيده حديث النبي صلى الله عليه وسلم كما
في صحيح البخاري برقم (3507) (أراموا بنو إسماعيل فإن أباكم كان رامياً)
قاله مخاطباً بعض الصحابة – وهم قحطانية – وانظر شرح الحافظ بن حجر حيث بوب
في صحيحه باب (نسبة اليمن إلى إسماعيل) وساق الحديث السابق وقال الحافظ بن
حجر (6/621) (نسبة مضر وربيعة إلى إسماعيل متفق عليهما، وأما اليمن فجماع
نسبهم ينتهي إلى قحطان واختلف في نسبه وزعم الزبير بن بكار إلى أن قحطان من
ذرية إسماعيل، وهو ظاهر قول أبي هريرة حيث قال وهو يخاطب الأنصار: (فتلك
أمكم يا بني ماء السماء) – أي هاجر أم إسماعيل- هذا هو الذي يترجح في نقدي وذلك أن عدد الآباء بين المشهورين من الصحابة وغيرهم وبين قحطان متقارب من عدد الآباء بين المشهورين من الصحابة وغيرهم وبين عدنان) انتهى.
وما ذكره
ورجحه الحافظ ابن حجر هنا ظاهر لكل من طالع تراجم مشاهير الصحابة من عدنان
وقحطان ومشاهير العرب من الجاهلية ونظر في أنسابهم فإنه يجد سلسلة النسب
متقاربة العدد فالعدنانيون يصلون إلى عدنان بنحو عشرين جداً والقحطانيون
بنحوهم.
وإذا كانت
القبائل النجدية المعاصرة والحجازية واليمانية تحتفظ بأنسابها إلى هذا
اليوم وإذا كان كاتب هذه المقالة يحفظ ويعد نحو خمسة عشر جداً حتى يصل إلى
الجد الأعلى لقبيلة الصعران من مطير التي تتكون من عدة قبائل كل قبيلة
تنقسم إلى أفخاذ وبطون وأسر كثيرة، ويعرف من يشاركه من هذه البطون والأسر
في كل جد من جدوده، دون وجود كتاب، وإنما اعتماداً على ما تواتر عند جميع
رجال القبيلة مما أخذه الأبناء عن الآباء والآباء عن الأجداد، فكيف يستكثر
على عرب الجاهلية أن يحفظوا أسماء عشرين جداً من جدودهم؟
إن النسب
ليس كالتاريخ فالإنسان قد ينسى الحوادث والوقائع التاريخية غير أنه لا ينسى
اسم أبيه وجده، وإذا حصل ذلك فلا بد أن يكون له أخوة وأبناء عمومة أو
عشيرة يحفظ أحدهم نسب الأسرة، وقد يعيش الإنسان إلى مائة سنة يظل فيها
حافظاً عارفاً تاريخ أبيه وجده اللذين قد يكون أدركهما فترة طويلة، ونحن
نشاهد عشرات المعمرين في القبيلة الواحدة ممن أدركوا القرن الماضي وبعضهم
يذكر حوادث قبل سنة 1900 وهؤلاء أدركوا معمرين من آبائهم وقبائلهم ربما
يذكرون حوادث سنة 1800 م أي أن رجلين معمرين في القبيلة الواحدة أدرك
أحدهما الآخر يمكنهما حفظ تاريخ القبيلة أو الأسرة مدة (200) سنة خاصة
نسبهما، فكيف إذا كان في الأسرة أو العشيرة عشرات المعمرين من آبائهم
وأجدادهم وهكذا صاعداً؟ وكيف إذا كان من هؤلاء المعمرين من له عناية بحفظ
الشعر والأدب والتاريخ والأيام والأنساب كما هي عادة أكثر العرب؟
ثم إذا جاز
لـ د. الأنصاري أن ينفي نسب القبائل العدنانية إلى عدنان بدعوى أنه لم يجد
نصاً أثرياً فيه اسم هذا الجد- الذي ينتسب له الملايين من العرب اليوم –
فمن هو إذن جد غطفان وهوازن وكنانة وأسد وغيرهم من جدود العرب الذين يدعون
أنهم أخوة؟
فان نفي
كون هؤلاء يرجعون إلى أصل واحد فقد كابر، وان اعترف أنهم يعودون إلى أب
واحد ونفى أن يكونوا من ذرية إسماعيل فذلك الرجل عندنا هو عدنان سواء كان
هذا اسماً له أو لقباً أو صفة أطلقها عليه أحفاده المتأخرون عن عصره فكل
ذلك لا يغير من الحقائق شيئاً وهو أن القبائل العدنانية تعود إلى جد واحد
من دون سائر العرب وليسمه د.الأنصاري ما يشاء.
ثم إذا جاز
نفي وجود عدنان لعدم وجود نص أثري يشير إلى هذا الاسم فهذا يعني أنه يمكن
نفي وجود (كنانة) و(فهر) و(عبد مناف) من جدود النبي صلى الله عليه وسلم لأن الشبهة في نفي وجودهم هي نفس الشبهة في نفس وجود عدنان، لأنه لا توجد آثار تشير إلى أسماء هؤلاء وعليه فلا وجود لهم؟!
كما لا
وجود لكل جدود القبائل الموجودة الآن في الجزيرة العربية لأنه لا يوجد لهم
ذكر على الأحجار والنقوش؟! لأن أكثر هذه القبائل لم تدون ولم تؤلف كتب في
أنسابها إلا في هذه العصور وقد ظلت هذه القبائل تعيش في مجاهل هذه الجزيرة
بعيداً عن الدراسات العلمية والتاريخية مدة سبعة قرون تقريباً فهل تشك في
أنسابها؟
3- قال د. الأنصاري: (القاموس العربي حرم من كل اللهجات الجنوبية، ولم يسجل في القاموس العربي إلا لهجات الشمال).
هكذا إذن! الجنوبيون هم المؤرخون وقد ظلموا الشماليين والشماليون هم اللغويون وقد حرموا القواميس من لهجات الجنوبيين؟!!
أما كيف
حدث ذلك؟ ولم لم يشتركوا جميعاً في الكتابة والتأليف في كلا العلمين
(التاريخ) و(اللغة)؟ ومن الذي منع الجنوبيين من وضع قاموس لغوي؟ ومن الذي
سبق د. الأنصاري إلى هذه الاستنتاجات الغريبة الطريفة؟ كل هذه الأسئلة لا
نجد لها جواباً في ثنايا حديث د. الأنصاري.
لقد نسي أن
هناك كثيراً من شعراء اليمن وقحطان كامرئ القيس – صاحب المعلقة – وعمرو بن
معد كرب والشنفرى الأزدي وعبد بن يغوث الحارثي والحارث بن وعلة الجرمي
وعبد الله بن سلمة الغامدي .. الخ
وشعر هؤلاء
وغيرهم من شعراء القحطانية واليمانية كثير جداً ولا نجد بينه وبين شعر
العدنانية كبير اختلاف ولا صغيره إلا كما بين أشعار القبائل العدنانية،
وهذا وحده كاف لإبطال هذا الرأي، فكيف إذا كان كتاب الخليل بن أحمد الأزدي
هو أول وأقدم مصادر قواميس اللغة العربية؟ وكيف إذا ثبت أن أهل الكوفة هم
من الأزد الذين فتحوا العراق وقد جاؤوا من اليمن مباشرة إلى الكوفة ومعهم
لغتهم ولهجتهم وبينهم ازدهرت علوم العربية؟ وكيف والعلامة الحميري من أئمة
اللغة وأصحاب القواميس؟ أليس في كل ذلك ما يهدم هذه النظرية التي يحاول
جاهداً د. الأنصاري إثباتها دون أن يقدم أي دليل علمي على صحتها.
لقد غاب عن
د. الأنصاري أن كثيراً من أئمة اللغة العربية هم من غير العرب ولم يكونوا
يعانون من عقدة الشمال والجنوب ولا يتعصبون لعدنان على قحطان ولم يكونوا
يعيشون هذه الأجواء النفسية المعقدة التي لم يعهدها عرب الجاهلية- فضلاً عن
علماء الإسلام – حيث كان الجاهليون من عدنان وقحطان يتزاوجون فيما بينهم
ويتحالفون ويحفظ بعضهم شعر بعض ويعقدون لذلك الأسواق الأدبية كما في (عكاظ)
ويحجون البيت الحرام جميعاً عدنانيهم وقحطانيهم وليست هناك مقاطعة بين
الشمال والجنوب إلا في ذهن د. الأنصاري ولو طالبناه بإقامة دليل أثري على
هذه الدعاوى لما استطاع إليها سبيلا إلا ما يجده من إشارات في كتب المؤرخين
التي لا يؤمن بها أصلا، حيث يقول عنهم: ( هذا ما يقوله المؤرخون العرب
ولكن أنا لا أؤمن بهذا). وقال أيضاً: (التاريخ العربي من كتبه؟) وقال: (هذا
شيء من الخيال ... هذه تواريخ قدمت إلينا ونحن لا نزال نعيش عليها).
وفي
المقابل يحتج بهذا التاريخ متى ما يشاء لتأييد آرائه فيقول عن امرئ القيس :
(امرؤ القيس كل حياته في نجد) ولو طالبناه بدليل أثري على هذه الدعوى لما
استطاع إقامته إلا بالرجوع إلى كتب التاريخ وأقوال المؤرخين عن امرئ القيس
الكندي اليماني الذي يريد د. الأنصاري إثبات أنه شاعر شمالي لا جنوبي ليقطع
الطريق على من يريد الاستدلال بشعره على أنه شاعر يماني فيبطل ذلك نظرية
د. الأنصاري من أن لغة اليمن قد ضاعت وحرمت منها القواميس العربية!وهذا
منهج انتقائي يفتقر للموضوعية.
4- قال د.
الأنصاري: (اللغة العربية حرمت من المفردات والثراء اللغوي الذي كان
موجوداً في جنوب الجزيرة العربية ولذلك عندما يؤتى بكلمة يقولون هذه كلمة
يمنية أو هذه كلمة حميرية كأن هناك حاجزاً نفسياً بين الذين سجلوا اللغة
وبين اللهجات المختلفة)؟!
إذن نحن
أمام مشكلة كبيرة حقاً تتداخل فيها المؤثرات التاريخية والسياسية والنفسية
التي اكتشفها د. الأنصاري فجأة بعد أربعة عشر قرناً ليظهر لنا مدى الجناية
والجريمة العلمية التي ارتكبها المؤرخون واللغويون العرب في صدر الإسلام
حيث سقطوا جميعاً تحت وطأة العصبية الجاهلية وفقدان الروح العلمية حتى أنهم
حرموا الأجيال من تلك الثروة اللغوية والتاريخية بسبب الحواجز النفسية
التي تحول بينهم وبين الأمانة العلمية؟! عن أي مجتمع يتكلم د. الأنصاري؟!
وعن أي علماء يتحدث؟! وكيف استطاع خلق كل هذه الأوهام والخيالات التي لا
أساس لها من الصحة ؟!! ونقول لـ د. الأنصاري إن كل القواميس التي بين
أيدينا هي في لغة العرب كافة بلا استثناء والمادة اللغوية والمفردات من حيث
العموم مشتركة بين كل العرب، وإنما قد يقع الخلاف في الإعراب، وقد تتفرد
قبيلة عن غيرها ببعض الألفاظ، ومن هنا يشير العلماء أحياناً إلى أن هذه
اللفظة معناها كذا في لغة تميم وكذا في لغة قريش – مثلاً – وهكذا الشأن مع
القبائل القحطانية الجنوبية قد يشيرون أحياناً للمفردات التي تختص بها عن
غيرهم من العرب ولا يعني ذلك أبدا أن ما سوى هذه الألفاظ في القاموس ليست
من لغة قحطان فهذا ما لم يخطر على بال أحد قبل د. الأنصاري.
ثم هب أن
هناك حواجز نفسية في الشمال حالت دون تدوين لغة الجنوب الثرية بمفرداتها
فما الذي منع أهل الجنوب أنفسهم من تدوين هذه اللغة والمحافظة عليها؟ ونحن
نعلم أن اليمن منذ القرن الهجري الأول وهي بلد للعلم والعلماء، وكذلك نعلم
أن اللهجات العربية القديمة استمرت حتى بعد الإسلام وظلت لهجات محلية عامية
إلى عصرنا هذا، فما زالت القبائل النجدية والحجازية واليمانية تتكلم بنفس
المفردات اللغوية التي يستخدمها عرب الجاهلية وما زلت (كشكشة) و(كسكسة) بعض
قبائل الجنوب والشمال مستخدمة إلى هذا اليوم- قلب كاف المخاطبة إلى شين أو
سين – وإذا كان الأمر كذلك فلا نظن بأن لغة ولهجات القبائل القحطانية قد
اندثرت فجأة بعد القرن الرابع – وهو القرن الذي تم فيه اكتمال تدوين وجمع
اللغة – بل حالها هو حال القبائل الشمالية وبإمكان د. الأنصاري أن يتدارك
الموقف ويجمع مفردات اللهجات العربية القحطانية التي فاتت قواميس وكتب
اللغة العربية ليثبت لنا أن ما يدعيه حقيقة وليس وهماً كبيراً يسيطر على
ذهنه.
5- قال د. الأنصاري عن قبله (جرهم): (جرهم لا وجود لها؟ أنا لا أعرف .. لم أجد جرهم في النصوص).
وأقول ليست
الخطورة هي في النتائج التي يصل د. الأنصاري إليها قفزاً، وإنما الخطورة
هي في المنهج الذي يصل بواسطته إلى مثل هذه النتائج فهو ينفي وجود قبيلة
عربية لمجرد أنه لم يجد لها ذكراً في النصوص؟! وقصده بالنصوص هنا أي
الحجرية الأثرية، فهل يعني هذا أنه لا يعترف بأي حقيقة تاريخية إلا إذا دل
عليها حجر منقوش؟!! إن كان الجواب بالنفي فقد بطل استدلاله وصار عدم وجود
نص لا يدل على عدم وجود هذه القبيلة ويلزمه أن يقيم دليلاً آخر على صحة
دعواه، فلم يعد يملك من الأدلة سوى أنه (لا يعرف) وهي لا تصلح دليلاً في أي
علم من العلوم ولا أي فن من الفنون، وكان المنهج العلمي يقتضي أن يقتصر د.
الأنصاري على هذا الجواب ( أنا لا أعرف) دون أن يقرر بأن (جرهم لا وجود
لها) لمجرد أنه لا يعرف عنها شيئاً.
وإن كان
الجواب بنعم، وأنه لا تثبت حقيقة تاريخية إلا إذا ثبتت على حجر منقوش، وهذا
الذي يظهر لي من منهج د. الأنصاري ـ وأرجو أن أكون مخطئاً ـ فنحن إذن أمام
نظرية جديدة خطيرة تهدم ولا تبني، تزرع شكاً ولا تثمر يقيناً، فالتاريخ
العربي بل والإنساني قائم أساساً على (الخبر) وكل الحوادث التاريخية التي
تمتلئ بها بطون كتب التاريخ هي حوادث (خبرية) بل وحتى ما كان منقوشاً على
حجر يظل (خبراً) يحتمل الصحة والخطأ والصدق أو الكذب ممن كتبه أو نقشه، ولا
فرق بين (الخبر) الشفهي و(الخبر) المكتوب من هذه الحيثية ومعنى ذلك أننا
لا يمكن أن نستفيد من أي معلومة ولو كانت على حجر منقوش ما لم نعرف من
كتبها ومدى صدقه وموضوعيته وعدنا من حيث بدأنا إلى نقطة الصفر فلا تاريخ
ولا هم يحزنون!
ثم على فرض
صحة نظرية د. الأنصاري من أنه لا بد من نص أثري ليثبت فيه الحقيقة
التاريخية فالمنهج العلمي الموضوعي يوجب على د. الأنصاري أن يتوقف عن إصدار
أي حكم نفياً كان أو إثباتاً حتى يعثر على جميع الأثريات لأنه قد يجد
خبراً عن قبيلة (جرهم) فهل يزعم د. الأنصاري أنه عثر على جميع الأثريات؟
إذن فموضوع قبيلة (جرهم) يظل في دائرة الاحتمال والإمكان وللأنصاري أن يقول
لا أستطيع أن أثبت وجودها لعدم وجود نص أثري غير أنه كذلك لا يستطيع أن
ينفي وجودها لأنه لا يملك دليلاً على ذلك فليدع الموضوع للأيام فقد يعثر
الآثاريون على ما يفيدنا شيئاً بخصوص قبيلة جرهم.
وقد روى
البخاري في صحيحة برقم (3364) و(3365) حديث قصة أم إسماعيل عليه السلام،
وقدوم قبيلة جرهم ونزولهم على هاجر وابنها، ونشأة إسماعيل فيهم، وزواجه
منهم، ويراجع فتح الباري (6/464) عن قبيلة جرهم.
6- قال د.
الأنصاري: رداً على من احتج بالتاريخ المتواتر: (هذا التاريخ المتواتر ولكن
بالعقل ننفيه وليس بالحقيقة فالذي سجل التاريخ كان في القرن الثاني الهجري
أي بينه وبين فترة إسماعيل وإبراهيم أكثر من ألفي سنة فمن يأتي بسند من
ألفي سنة أنه كان كذا وكذا وكان (جرهم) هذا شيئاً من الخيال هذه تواريخ ألف
عام وقدمت لنا ونحن لا زلنا نعيش عليها...)!!!
أقول: وهذه
عبارة تحتاج إلى سعة صدر وجميل صبر لفك مشكلاتها فـ (التواتر) و(العقل)
و(الحقيقة) ألفاظ لها مدلولاتها الخاصة عند العلماء و(التواتر) هو رواية
الجمع عن الجمع مما تحيل العادة اتفاقهم على الكذب أو الخطأ وهو يفيد العلم
القطعي اليقيني بلا خلاف بين العقلاء فإذا أخبرك مائة رجل من بلدان مختلفة
عن حادثة معينة شاهدوها بأنفسهم فإنك لا تتردد لحظة في تصديق خبرهم كأنك
قد شاهدته بنفسك، وهذا ما يجده كل إنسان في نفسه ضرورة، بل إننا قد نسمع
الخبر من الطفل الصغير ونعمل بمقتضاه بلا تردد كما لو أخبر الابن أباه أن
أمه مريضة أو تريد حاجة من السوق ونحو ذلك فإن الأب عادة لا يتردد في تصديق
ابنه الصغير وما ذلك إلا لأن هذا (الخبر) أفاده علماً كما لو أنه سمع ورأى
بنفسه.
ومن ينكر
المتواتر من الأخبار يهدم – من حيث يدري أو لا يدري – الدين واللغة
والتاريخ والآداب وكل ما لا يدرك إلا عن طريق (الخبر) فالقرآن قطعي الثبوت
لكونه متواتراً وأكثر السنة الصحيحة مقطوع بصحتها لتواترها لفظاً أو معنى
أو لتواتر العمل بمقتضاها.
بالطبع لم
يقصد د. الأنصاري هذا المعنى غير أنه أخطأ عندما تصور أنه يمكنه أن ينفي
التاريخ المتواتر (بالعقل) ونسي أن القطعيات لا تتعارض أصلاً فما ثبت
بالدليل الحسي أو الدليل العقلي لا يمكن أن يصطدم بما ثبت بالدليل النقلي
القطعي وإن حصل تعارض – فرضاً – فأحد الدليلين ظني أو كلاهما ظني، فقد يخطأ
(الحس) في الإدراك، وتخطئ التجربة في النتائج، و(العقل) في الاستدلال
وكذلك قد يخطئ النقل في الرواية.
وأما عبارة
د. الأنصاري (بالعقل ننفيه وليس بالحقيقة) إن لم تكن خطأ مطبعياً أو سبق
لسان فهي مشكلة أخرى وكأن د. الأنصاري لا يعرف مدلولات هذه الألفاظ التي
يخاطب بها الآخرين ولا يحسن استخدام اللغة التي نعى على علماء العربية
تفريطهم بها وإضاعتهم إياها؟ وإلا فكيف ينفي (المتواتر) بـ العقل لا
بالحقيقة ؟!!
وعلى كل
فليس هناك ما يستدعي كل هذا السخط على قدماء المؤرخين – الذين لا يقيم لهم
د. الأنصاري أي وزن – لأنهم أصلاً لم يذكروا إلا النزر اليسير من الحوادث
التاريخية القديمة وجل ما ذكروه من تاريخ العرب هو الواقع ما بين عصر (مضر
وربيعة ابن نزار بن معد بن عدنان) إلى ظهور الإسلام وهي مدة سبعة قرون –
تقريباً – وأكثر هذه المادة التاريخية تخص الحوادث الواقعة في القرنين
السابقين على ظهور الإسلام فالذي حفظه المؤرخون العرب ليس سوى 1% من تاريخ
العرب القديم كما حفظ الشعر شيئاً من تاريخهم وإذا كان هناك اليوم من كبار
السن في البادية بنجد من يحفظون كثيراً من التاريخ والشعر وأسماء الرجال
المشاهير وحروبهم ولا يختلفون في كثير من ذلك مع أن بعض هذه الحوادث
التاريخية لها أربعة أو خمسة قرون وقد حفظوه عن آبائهم وأخذه آباؤهم عن
أجدادهم وهكذا، ثم وجدنا أن بعض المؤرخين الذين ألفوا في تاريخ نجد وعاصروا
بعض تلك الحوادث قد ذكروها على النحو الذي يحفظه كبار السن مع أن هؤلاء
الكبار هم من البادية الذين لم يتلقوا ولم يقرءوا شيئاً من مؤلفات هؤلاء
المؤرخين كابن بشر في كتابه (عنوان المجد في تاريخ نجد) أو ابن غنام في
كتابه (التاريخ) وغيرهم من المؤرخين إذا كان الأمر كذلك فما هو الغريب في
أن يحفظ العرب الذين أسلموا شيئاً من تاريخ قبائلهم وأشعارهم وأيامهم
وأنسابهم مع أن هذه العلوم هي من أخص ما اشتهر به العرب الجاهليون وقد كان
فيهم المؤرخون والنسابون والحافظون للشعر والحكم وقد كان أبو بكر الصديق
رضي الله عنه من أعلم قريش بأنسابها وكان عالماً بأنساب قبائل العرب، وكانت
عائشة رضي الله عنها كأبيها في ذلك، وكانت تحفظ أيام العرب وأشعارهم، وكذا
كان ابن عباس رضي الله عنه وكان يخصص وقتاً لدروس التفسير والحديث والشعر
وأيام العرب وأول من ألف كتاباً في التاريخ هو عروة بن الزبير (ت93هـ) وقد
أخذ هذا العلم عن خالته عائشة رضي الله عنها وعن ابن عباس وغيرهما من
المتخصصين في هذه العلوم ثم ألف تلميذه الزهري (1235هـ) كتابة في المغازي
وعنه أخذ المؤرخ الكبير موسى بن عقبة (ت140هـ) الذي قال: (وضع كريب عندنا
من كتب ابن عباس حمل بعير).
وعن الزهري
وغيره أخذ محمد بن إسحاق علم التاريخ والسيرة (ت150هـ) الذي ألف كتابه
(السيرة) في أوائل القرن الهجري الثاني وقد عاش كثير من عرب الجاهلية
وعمروا في الإسلام كعمرو بن معد كرب وحسان بن ثابت ولبيد بن ربيعة ..الخ
وهؤلاء من كبار الشعراء في الجاهلية ومن عادتهم معرفة التاريخ والأنساب
والحروب لتوظيفها واستخدامها في المدح والهجاء والفخر.
والمقصود
أن تأليف التاريخ بدأ في القرن الأول الهجري (وانظر فهرس ابن النديم) وهذا
كله يكشف لنا مدى الخطأ الذي وقع فيه د. الأنصاري عندما زعم أن الذين سجلوا
التاريخ بدءوا في تسجيله بعد مائتي سنة من مجيء الإسلام كيف وقد أثبتت
الاكتشافات الأثرية (أن العرب كانوا يدونون ويكتبون) قبل الإسلام ومن ذلك
تدوينهم للمعلقات – كما يقول د. سعد الراشد – وأقره على ذلك د. الأنصاري
نفسه ؟! انظر (الثقافية عدد 31).
وقد انتقد
الإمام أحمد بن حنبل محمد بن إسحاق صاحب المغازي والسير لأنه كان ينقل من
كتب الناس الموجودة قبله في التاريخ والسير مع أنه لم يقرأها على مؤلفيها-
كما هي الطريقة التقليدية في الرواية – وهذا يدل على أن هناك كتباً قبل أن
يؤلف محمد بن إسحاق كتابه في (السيرة) في أوائل القرن الثاني، وبالطبع ليست
تلك المصادر هي كتب الزهري وعروة بن الزبير لأن محمد بن إسحاق من تلاميذ
الزهري ومن تلاميذ هشام بن عروة بن الزبير وعنهما أخذ هذا العلم وإنما قصد
الإمام أحمد كتباً أخرى ربما تكون أقدم بكثير (ويراجع ترجمة ابن إسحاق في
تهذيب الكمال للمزي).
7- قال د. الأنصاري عن نظرية طه حسين وتشكيكه بالشعر الجاهلي: (نظرية طه حسين غير صحيحة... إن كان قد قالها)؟!
وهذا كلام
متناقض متنافر فبينما يثبت د. الأنصاري أن نظرية طه حسين غير صحيحة- لأنه
تم العثور على أثريات كتبت عليها أشعار جاهلية قرب مكة – إذا هو يشك في هل
قال طه حسين بهذه النظرية أم لا؟!
ثم كيف يقال (نظرية طه حسين) إذا كان هو لا يدري هل قالها طه حسين أو لم يقلها؟ وما معنى مصطلح نظرية إذن؟
وكيف
يستطيع د. الأنصاري أن يكتب التاريخ العربي القديم ويعيد صياغته على أسس
علمية حديثة وهو يشك في حادثة أدبية تاريخية من أشهر القضايا العلمية
والأدبية في هذا القرن وهي قضية التشكيك في الشعر العربي الجاهلي التي
أثارها طه حسين في كتابه (الشعر الجاهلي) وثارت بسببها معارك أدبية كبيرة
وألف فيها كبار الأدباء روائع الكتب كالرافعي في كتابه (تحت راية القرآن)؟
وعلى كل حال فنأمل أن يعيد
د. الأنصاري النظر في هذه الآراء فإن أبى إلا الإصرار عليها فليدع الخوض
على الأقل في موضوع الأنساب لخطورته وحساسيته فإذا كان نفي نسب رجل عن أبيه
جريمة فكيف بنفي نسب أمه كاملة؟