كشف الأستار عن شبهات الحوار
رداً على ما كتبه خليل حيدر
في صحيفة الوطن
3 ـ 5
بقلم د. حاكم المطيري
الأمين العام للحركة السلفية
صحيفة الرأي العام 12/3/2004
رابعاً: لم يكتف حيدر بكل هذا العبث الجدلي فأخذ بالتعالم وهي آفة أهل هذا العصر فقال في الحلقة الثالثة:(ثم أخيراً ما هي هذه المراجع الفقهية الإسلامية الحديثة أو القديمة التي تناولت بشكل واضح موقف الإسلاميين من قضية تداول السلطة دخولاً وخروجاً؟ ومن من قادة العمل والفكر الإسلامي الحركي وافق عليها؟) وقال أيضاً: (ويتضح مما سبق أن العودة إلى الفقه السياسي للإسلام لا يسعفه كثيراً) انتهى كلامه بحروفه.
وهذا اعتراف صريح من حيدر بأننا دعونا إلى التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة غير أن الفقه الإسلامي ـ كما يزعم حيدر ـ لا يسعفنا مع أنه أكد في الحلقة الثانية أننا لا نؤمن بالتعددية ولا بالتداول السلمي للسلطة؟!
قطعاً من يقرأ هذه العبارة سيظن بأنه لا يوجد من سبق حاكم المطيري إلى الدعوة إلى التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة لا في القديم ولا في الحديث وأنه لا مرجعية تاريخية لمثل هذه الدعوة ولن أطيل على القراء وسأذكر له مثالين فقط من القديم ومن الحديث ينقضان كل هذه الدعوة العريضة ـ وما أكثر دعاوى حيدر وأعرضها ـ أما من القديم فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في سقيفة بني ساعدة في شأن الخلافة على فريقين المهاجرين والأنصار فقال الأنصار للمهاجرين (منا أمير ومنكم أمير) وقد جاء تفسير هذه العبارة كما في فتح الباري شرح صحيح البخاري 7/31 عن الزهري بإسناد صحيح قال: (إن الأنصار قالوا: نختار رجلاً من المهاجرين وإذا مات اخترنا رجلاً من الأنصار فإذا مات اخترنا رجلاً من المهاجرين كذلك أبداً فيكون أجدر أن يشفق القرشي إذا زاغ أن ينقض عليه الأنصاري وكذلك الأنصاري) وهذا تماماً مبدأ التداول السلمي للسلطة بين حزبين بأن يتم التداول لها بين المهاجرين والأنصار فتارة يتم اختيار الخليفة من المهاجرين وتارة من الأنصار لضمان عدم وقوع انحراف في السلطة إذ يصبح كل من كان منهما خارج السلطة رقيباً على من يتولاها ولم يرفض المهاجرون هذا المبدأ لكونه يصطدم بالنظرية السياسية الإسلامية بل احتجوا بأن العرب لا ترضى إلا بقريش لما بين العرب العدنانية والقحطانية في الجاهلية من تنافر فكانوا لا يرتضي بعضهم إتباع بعض إلا لقريش لأنهم أهل البيت الحرام وخدامه وسدنته فلهم من الخصوصية ما يجعل القبائل القحطانية ومنهم الأنصار ترضى بقيادتهم فقد احتج المهاجرون بالمصلحة وبرأي العرب الذين هم أصحاب الحق في اختيار الخليفة ـ إذ لم يدخل في الإسلام آنذاك إلا العرب ـ وقد أدرك الأنصار هذه الحقيقة وأن الواقع لا يساعد على تنفيذ مبدأ (منا أمير ومنكم أمير) مراعاة للمصلحة الظاهرة ولرأي الأغلبية وهم العرب الذي أسلموا.
وأما المثال الثاني من القديم فهو قصة التحكيم بين علي وشيعته من أهل العراق ومعاوية وشيعته من أهل الشام فقد ارتضى الحزبان مبدأ تحكيم الأمة والرجوع إليها لتختار من ترضاه منهما أو من غيرهما خليفة لها وقد حضر من اعتزل الفريقين من الصحابة وعلى رأسهم عبد الله بن عمر وتوصل الحكمان إلى: (عزل علي ومعاوية ثم يجعل الأمر شورى بين الناس ليتفقوا على الأصلح منهما أو من غيرهما) (انظر ابن جرير الطبري 3/112 وابن كثير 7/294)
وهذا إجماع من الصحابة كلهم علي وحزبه ومعاوية وحزبه والصحابة الذين اعتزلوا الحزبين على مشروعية الانتماء الحزبي السياسي وعلى مشروعية التنافس على السلطة وعلى حق الأمة في اختيار من تراه الأصلح لها منهما أو من غيرهما فليس في كل ذلك ما هو ممنوع شرعاً وإنما الممنوع هو القتال بين الفريقين ولهذا اعتزلهم أكثر الصحابة فلما ارتضى الحزبان مبدأ تحكيم الأمة والرجوع إليها بادر عبد الله بن عمر مع من اعتزل من الصحابة للحضور إذ هذا هو حكم الشريعة عند وقوع الخلاف والتنازع على السلطة.
بل وأوضح من ذلك كله ترشيح عمر للستة وهم أفضل الصحابة وأكفؤهم ووقوع التنافس بينهم وبعد التنازل من بعضهم انحصر الترشيح بين عثمان وعلي فقام عبد الرحمن بن عوف بإجراء استفتاء عام كما في تاريخ ابن كثير 7/151 إذ جاء فيه: (نهض عبد الرحمن يستشير الناس فيهما حتى خلص إلى النساء في خدورهن والولدان في المكاتب وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراف إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليهن) ثم أعلن عبد الرحمن نتيجة الاستفتاء العام في المسجد وبحضور الصحابة والمتنافسين فيها وهما عثمان وعلي وقال ابن عوف (يا علي إني نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان أحداً) فبايع الجميع عثمان بعد الاستفتاء العام ولم يعترض علي رضي الله عنه على هذه النتيجة ولم يشكك في صحتها قال ابن حجر في الفتح 13/197: (وسكوت من حضر من أهل الشورى والمهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد دليل على تصديقهم عبد الرحمن فيما قال وعلى الرضا بعثمان).
فكل هذه الأمثلة تؤكد مشروعية التنافس على السلطة بالطرق السلمية وعلى مشروعية التداول السلمي بين الأحزاب السياسية وعلى حق الأمة في اختيار من تشاء ليحكمها وحقها في عزله وخلعه وعلى مشروعية الاستفتاء العام وأخذ رأي النساء والشباب الصغار في مثل هذا الموضوع عملاً بقوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم).
أما في العصر الحديث فقد دعا العلامة السلفي المحدث الفقيه القاضي أحمد شاكر الحسيني نسباً المصري بلدا رجال القانون سنة 1941م إلى العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية في كتابه (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر التشريع في مصر) ص 34 ثم بين الطريق الذي سيلتزمه لتحقيق هدفه حيث قال فيه: (سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السلمي أن نبث في الأمة دعوتنا ونجاهد فيها ونجاهر بها ثم نصاولكم عليها في الانتخاب ونحتكم فيها إلى الأمة ولئن فشلنا مرة فسنفوز مراراً فإذا وثقت الأمة بنا ورضيت عن دعوتنا واختارت أن تحكم بشريعتها طاعة لربها وأرسلت منا نوابها إلى البرلمان فسيكون سبيلنا وإياكم أن نرضى وأن ترضوا بما يقضي به الدستور فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب إذا فاز أحدها بالانتخاب ثم نفى لقومنا بما وعدنا من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة).
وقد دعا إلى ذلك أيضاً آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية الشيخ مصطفى صبري كما في حاشية كتابة (العقل والعلم) حيث دعا علماء مصر ودعاتها إلى العمل السياسي السلمي والحصول على الأغلبية البرلمانية من أجل تطبيق الشريعة الإسلامية التي اجتهد الاستعمار في إقصائها وتعطيلها وتحكيم القوانين الوضعية مكانها.
كما أيد العلامة السلفي الفقيه المفسر عبد الرحمن السعدي ـ شيخ ابن عثيمين ـ الأنظمة الجمهورية في مقابل الأنظمة الدكتاتورية حيث قال في تفسيره 3/457: (لو سعى المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية وتحرص على إبادتهم وجعلهم عملة وخدماً لها نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين وهم الحكام فهو المتعين ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة).
فهذه بعض النصوص عن أئمة الفكر السلفي المعاصر تؤيد دعوتنا إلى التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة والعمل على إقامة نظام حكم شعبي تصان فيه الحقوق والحريات للأفراد والمجتمعات للمسلمين ولغير المسلمين إذ المقصود تحقيق المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها وإقامة العدل والقسط بين الناس كافة سواء في دولة إسلامية أو دولة غير إسلامية.
وبهذا يظهر بجلاء مدى التضليل في قول حيدر عن دعوتنا إلى التعددية السياسية بأنها ليس لها مرجعية إسلامية وأنها من تأثر الحركة السلفية وحاكم المطيري بدراسته في الغرب؟ فهذا هو الشيخ المحدث أحمد شاكر وهو من كبار أئمة أهل السنة في هذا العصر يدعو سنة 1941م إلى التزام العمل بالطرق السلمية الدستورية والعمل الحزبي المنظم من أجل الحصول على الأغلبية البرلمانية ليصل إلى الحكم من يختاره الشعب كما تفعل الأحزاب السياسية وفق ما يقضي به الدستور المصري آنذاك من التداول السلمي للسلطة مع أنه من أشد العلماء رفضاً للقوانين الوضعية بل يرى التحاكم إليها ردة وخروجاً عن الملة إلا أنه يفرق بين الدستور الذي هو وثيقة وعقد بين الحاكم والمحكوم يتضمن مبادئ عامة يبطل منها ما قد يعارض أحكام الشريعة الإسلامية ويعمل بما لا يتعارض معها من مبادئ كما هو حكم سائر العقود التي تتضمن شروطاً فاسدة فتصح العقود وتبطل الشروط وبين القانون الذي هو أحكام فيها معنى الإلزام مضاهاة لحكم الله ورسوله ومحادة لما جاء به القرآن والسنة وهو كفر صراح وهذا الفرق بين الدستور والقانون لا يدركه أكثر الإسلاميين الحركيين فضلاً عن العامة وإنما يدركه الفقهاء الكبار والقضاة الأفذاذ كأحمد شاكر رحمه الله تعالى وقد فصلت القول في الفرق بين القانون والدستور في مقالي (البيان فيما أشكل على مجلة الفرقان) رقم (4) و(5).
وهذا هو السبب الذي جعل حيدر يتجنب مقالاتي (البيان فيما أشكل على مجلة الفرقان) وكذا تجنب ردودي عليه بعنوان (قبل بدأ الحوار) وهي ست حلقات منشورة في صحيفة الوطن إذ كل تلك المقالات وغيرها كثير تؤكد مدى إيمان حاكم المطيري بضرورة التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وإشهار الأحزاب وحماية حقوق الإنسان وكلها تكشف مدى تهافت شبه حيدر حول هذا الموضوع ولهذا تجنبها وكأنه لم يسمع بها وأخذ ينبش في القبس والرأي العام والسياسة طمعاً في أن يعثر على ما يدين به حاكم المطيري؟
بل وأغرب من ذلك وأعجب أنه في الوقت الذي يتحدى حيدر أن نذكر له (من قادة العمل أو الفكر الحركي الإسلامي من وافق عليها) أي على التعددية السياسية؟ نجد لحيدر نفسه نصاً أثبت فيه بأن كبار رجال الفكر الإسلامي المعاصر يؤيدون الأنظمة الديمقراطية حيث ذكر في مقاله المنشور في الوطن 9/9/1999م بعنوان (حوار مع حاكم المطيري) رقم (4) شهادة القرضاوي والغزالي وعدنان سعد الدين حيث قال حيدر بعد أن ذكر تأييد الشيخ القرضاوي للديمقراطية كنظام للحكم تتحقق فيه الشورى والعدالة والحرية: (وممن لشهادته الإسلامية قيمة كبرى بحق الديمقراطية الأستاذ عدنان سعد الدين مراقب الأخوان المسلمين السوريين سنة 1975 وأحد القياديين المعروفين في الفكر والعمل الإسلامي.. وفي مقابلة صرح الشيخ محمد الغزالي بأن الديمقراطية تحتاج إلى شعوب ترتفع إلى مستواها إلى شعوب أرقى من العالم العربي حتى تستوعب الديمقراطية)؟!
هكذا إذن؟ فإذا قال أحد الإسلاميين لا للديمقراطية الغربية جاء حيدر بالأدلة القاطعة من أقوال كبار الفكر الإسلامي التي تؤكد مشروعية الديمقراطية وأنها لا تتعارض مع الإسلام! وإذا دعا حاكم المطيري إلى التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة وإلى حكم الشعب أنبرى حيدر ليؤكد أنه ليس هناك لا في القديم ولا الحديث من طرحها وليس في رجال الفكر الإسلامي من وافق عليها؟ فهل هناك ضرب من العبث أشد تضليلاً وأضل سبيلاً من هذا الأسلوب الذي يستخدمه حيدر في مقالته وكتاباته وحواراته؟
ثم هب جدلاً أنه لا يوجد أي مرجعية فقهية تؤيد التعددية السياسية فإن ذلك لا يضر شيئا إذ لا نحتاج إلى أي مرجعية سوى الكتاب والسنة إذ هما المرجعية لكل مسلم وأقوال العلماء يحتج لها ولا يحتج بها وكما قال الخليفة الراشد علي رضي الله عنه (لا يعرف الحق بالرجال فاعرف الحق تعرف أهله) وما المذاهب الفقهية سوى مدارس لفهم الكتاب والسنة فلا عصمة لأحد ولا حجية لقول أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثبت يقيناً أن الإمارة شورى بين المسلمين كما قال تعالى (وأمرهم شورى بينهم) وثبت أن الخلفاء الراشدين تم اختيارهم بالانتخاب وبالرضا دون إجبار وإكراه وإذا ثبت رضا الصحابة بمبدأ ترشيح عمر للستة وإقرارهم جميعاً لهذه الطريقة في اختيار الحاكم مع أنها من أوضح صور التعددية السياسية حيث تم فتح الطريق للتنافس بين عدد من المرشحين للوصول إلى السلطة عن طريق اختيار الأمة لواحد منهم بشكل سلمي بواسطة الاستفتاء العام إذا ثبت كل ذلك فما المانع من تحقيق هذه المبادئ بالنظم والوسائل الحديثة؟ فعلى حيدر أن يذكر النصوص الشرعية التي تتعارض مع هذه المبادئ السياسية ؟! وللحديث بقية