حوار هادئ مع الأستاذ فهمي هويدي
بقلم : حاكم المطيري
المشكاة ـ صحيفة الوطن 3/1/2000
الكاتب الإعلامي، والمفكر الإسلامي، فهمي هويدي، هو أحد أبرز دعاة ((التسامح الفكري)) و ((احترام الرأي الآخر)) ومن أحرصهم على ((الالتزام بالموضوعية)) عند محاورة المخالف أو نقده، غير أن هذه المبادئ السامية كانت هي الفريضة الغائبة، في مقاله المنشور في صحيفة الوطن 7/12/1999 حول سقوط قانون ترشيح المرأة، حيث صور القضية على النحو التالي :
1- أن الذين رفضوا القانون إنما كانوا يعبرون عن توجهات ووجهة نظر المدرسة السلفية على وجه الخصوص؟!
2- وأن رأيهم هذا لا يقوم ولا يستند على أي دليل شرعي، وإنما اعتمدوا على تأويلات و اجتهادات بعض علماء هذه المدرسة السلفية؟!
3- وأن هذه المدرسة إنما انتشرت آراؤها في العقود الثلاثة الأخيرة، بسبب غياب دور الأزهر؟!!
4- وأن موقفهم من المرأة متأثر إلى حد كبير بظروف البيئة الجغرافية في الجزيرة العربية، وبتقاليدها التي ذهبت إلى حد وأد المرأة في الجاهلية، وما منع المرأة من المشاركة في الحياة العامة إلا مظهر من مظاهر هذا الوأد المعنوي والاجتماعي؟!
5- وأن سقوط القانون كشف عن مدى بعد مجتمعنا عن نقطة الصفر في قضية مساواة المرأة بالرجل، وأنه حرم المرأة من حقها السياسي؟!
6- وأن هذا الحق ستحصل عليه المرأة إن عاجلا أو آجلا، لأننا على مشارف القرن الحادي والعشرين؟!
هذه هي تصورات فهمي هويدي حول هذه القضية، فهل هذا هو الواقع؟ وهل كان موضوعيا في طرحه ونقده؟ وهل احترم وجهة نظر مخالفيه في الرأي؟ أم كان متطرفا في رأيه حد مصادرة كل قيمة اعتبارية للرأي الآخر؟
الكاتب بين الوهم والحقيقة :
بالطبع لا يحتاج الناقد لمقال فهمي هويدي كبير جهد لكشف ما فيه من خلط ووهم، وبعد عن الموضوعية والواقع، ويظهر ذلك جليا في دعواه بأن رأي المعارضين إنما يعبر عن توجهات المدرسة السلفية على وجه الخصوص، مع العلم إنه لم يكن بين من وضعوا الدستور الكويتي ومن وضعوا معه قانون الانتخاب والترشيح من يمكن وصفه بأنه يمثل أو يعبر عن توجهات المدرسة السلفية آنذاك! فهذه واحدة.
والثانية : هي إن دور الأزهر لم يكن غائبا ـ كما زعم فهمي هويدي ـ بل كان رأيه حاضرا مؤثرا، ومرفقا في تقرير لجنة الداخلية في مجلس الأمن الكويتي، وهي فتوى رسمية صادرة من لجنة الفتوى في الأزهر، وهي لجنة جماعية من كبار العلماء، لا أظن فهمي هويدي يتهمهم أيضا بالتأثر بالظروف البيئية الصحراوية للجزيرة العربية، التي ما زالت تمارس الوأد المعنوي للمرأة كما يزعم الكاتب؟
والثالثة : هي أن لجنة الفتوى في وزارة الأوقاف الكويتية ـ وهي لجنة رسمية حكومية، تضم نخبة من أهل العلم، من بلدان إسلامية عدة، وبعضهم من الأزهر ـ رأت المنع من زج المرأة في المعترك السياسي، وذكرت أدلتها وليس في هذه الأدلة ما يشير من قريب أو بعيد إلى تأثرها بالبيئة الصحراوية، وإنما قامت على أدلة من القرآن والسنة وأقوال الأئمة والقواعد الفقهية.
فكان الواجب احترام وجهة نظر هذه اللجان الفقهية الجماعية المتخصصة في الفتوى ولو على الأقل من باب احترام رأي أهل الاختصاص، وهو ما يدعو إليه فهمي هويدي دائما، إن لم يكن من باب احترام الرأي المخالف.
الرابعة : هي أن الذين أسقطوا القانون هم أعضاء مجلس الأمة الذين انتخبهم الشعب الكويتي كممثلين له، وما كانوا ليقفوا هذا الموقف الشعبي الرافض للقانون، وما كانوا ليصوتوا ضد القانون لولا وجود فتوى وزارة الأوقاف الكويتية، وفتوى لجنة الإفتاء في الأزهر، وفتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، التي اتفقت كلها على المنع.
الخامسة : أن رفض هذا القانون لا يعني حرمان المرأة من حقوقها السياسية، أو منعها من المشاركة في الحياة العامة ـ كما يزعم فهمي هويدي ـ لأن حقها في ((حرية إبداء الرأي)) ـ وهو حجر الأساس في الحريات السياسية ـ يظل محفوظا مصانا، والمرأة الكويتية اليوم تساهم في جميع الأنشطة العامة، وتشارك الرجل في التعلم، والتعليم، والعمل وإبداء الرأي في الشؤون السياسية والفكرية والشرعية ـ وقد وصلت إلى حد تولي وكيلة وزارة ـ وليس هناك وأد معنوي للمرأة الكويتية إلا إذا اعتبرنا أن منع العسكريين من الانتخابات والترشيح هو وأد لحقوقهم السياسية، وحرمان لهم من المشاركة العامة في شؤون المجتمع الأخرى، وفي هذا التصور من المبالغة وفقد الموضوعية ما فيه، فلسنا بعيدين إذن عن نقطة الصفر في موضوع المساواة بين الرجل والمرأة ـ كما يزعم فهمي هويدي ـ لمجرد سقوط هذا القانون، إذ إننا لم نساو بين الرجل والرجل في هذه القضية، مراعاة للمصلحة العامة، فمن باب أولى صيانة الأسرة من الانشقاق، إذ إن الآثار السلبية للانتخابات وصلت إلى حد تمزق الأسرة والقبيلة الواحدة، وأدت إلى نشوء العداوات بين أفرادها، وهي عداوات تتجدد وتترسخ كلما تجددت الانتخابات بسبب اختلاف التوجهات والرغبات، ولا شك أن الأسرة من الزوج و الزوجة لن تكون بمنأى عن هذه الآثار السلبية، إلا إذا التزمت الزوجة برغبة الزوج، وهو ما يحصل عادة في انتخابات الجمعيات التعاونية، وهي انتخابات سنوية تشارك فيها المرأة، ولا يظهر لمشاركتها أي أثر للاستقلال في الرأي، بل هي تابعة للزوج، أو للأب في اختياره لتصبح القضية كلها تكرار أرقام عددية؟
السادسة : ثم لاشك بأن الانتخابات والترشيح ما هي إلا وسيلة لغاية، وليست هي غاية في حد ذاتها، فإذا أمكن تحقيق هذه الغاية بأيسر السبل، وأقلها ضررا وتكلفة، فذلك هو المقصود، فإذا أمكن تحقيق المشاركة الشعبية، ومراقبة السلطة، ومحاسبتها، على الوجه المقصود الذي يحقق العدل والمصلحة العامة، عن طريق مجموعة من أهل القدرة والأمانة، فلا داعي إلى أشغال كل أفراد المجتمع رجالا ونساء مدنيين وعسكريين في الوسيلة، مع إمكان تحقيق الهدف دون إشغال الجميع، فمائة ألف مواطن كويتي شريحة كافية لاختيار خمسين عضوا، وإذا كان اختيار خمسين عضوا كافيا لتمثيل شعب تعداده مليون نسمه، فإن مائة ألف مواطن عدد كاف من باب أولى في تمثيل من وراءهم من زوجات وأبناء، وكما هو معروف في علم الإحصاء فإن هذا العدد لو تضاعف فستكون النتائج هي هي تقريبا، ولن يحدث أي تغيير نوعي في نوعية الأعضاء الخمسين.
السابعة : إن أغلبية النساء في الكويت رفضن هذا القانون، وقد أبدين وجهة نظرهن في هذا الموضوع، وهذا ما لا ينكره المؤيدون للقانون، إذ يعترفون بأن المرأة نفسها غير راغبة في الخوض في المعترك السياسي، على الأقل في الوقت الحاضر، وما دام كذلك فقد كان موقف الأعضاء الرافضين للقانون موافقا لرغبة أكثرية النساء، فلماذا كل هذا الحزن وكل هذا التشنيع على الرافضين مع أنهم إنما حققوا رغبة المرأة في هذا الموضوع.
الثامنة : إنه لا ينكر أحد بأن وصول المرأة للبرلمان الكويتي لو سمح لها بالترشيح أمر شبه مستحيل، وقد تحتاج المرأة إلى ثلاثين أو خمسين سنة قادمة حتى تصل أول امرأة للبرلمان عن طريق الانتخابات في الكويت ـ هذا إذا وصلن ـ وهذه حقيقة اجتماعية لا يستطيع أحد إنكارها، وواقع المرأة العربية في الدول التي سمحت للمرأة بحق الترشيح أكبر شاهد على صدق هذا التوقع وما دام الأمر كذلك، فلماذا نشغل الساحة السياسية والاجتماعية والفكرية في قضية نظرية ستظل حبرا على ورق إلى خمسين سنة قادمة؟!
التاسعة :إن من أخطر الآثار التي ستترتب على إقرار هذا القانون هو فتح الباب على مصراعيه أمام تجارة ((الأصوات الانتخابية)) فإذا كانت ظاهرة بيع وشراء الأصوات شائعة في أوساط الرجال، فإنها ستكون أكثر شيوعا في أوساط النساء، لقلة الوعي السياسي عند المرأة، التي تعزف بطبعها عن الاهتمام بالسياسة، ولوجود نسبة كبيرة من الأرامل والمطلقات اللائي قد يتم استغلال حاجتهن إلى المال عن طريق شراء أصواتهن، وستزداد نسبة من يصلون إلى البرلمان بالطرق غير المشروعة، لتكون النتيجة هي الأضرار بالمصلحة العامة للمجتمع، دون تحقق أي مصلحة خاصة للمرأة التي ستكون في أغلب الأحوال تابعة لزوجها، الذي ربما يكون ممن يبيع صوته فيجبرها على بيع صوتها، لتنتعش تجارة الأصوات الانتخابية؟!
كل هذه الحقائق والوقائع اختزلها فهمي هويدي في مقاله، وقفز عليها لتصبح القضية كلها عبارة عن غلو كان وراءه إتباع المدرسة السلفية، الذين انتشرت أفكارهم الصحراوية في ظل غياب دور الأزهر؟!
الوأد الفكـــــري:
إن تأمل سبب واحد من الأسباب التي ذكرتها آنفا كاف لا أقول لإقناع الكاتب وإنما لتبرير وجهة نظر مخالفيه، واحترامها، والاعتراف لها بأنها معقولة إلى حد ما، وليس بالضرورة أن يقتنع بها مؤيدو القانون، فكيف بالأسباب المذكورة كلها جميعا؟ وكيف إذا أضفنا إليها رأي أستاذ العلوم السياسية والخبير السياسي في شؤون منطقة الخليج د. عبد الله النفيسي الذي أعلنه في وسائل الإعلام وأيد رفض القانون مع إنه من مؤيدي منح المرأة حق الانتخاب والترشيح؟ فهذه عشرة أسباب كاملة تكشف إلى أي مدى كان غياب الموضوعية والدقة في الخبر والتحليل، والنقد والتعليل، في مقال الكاتب فهمي هويدي؟!
غير أن أخطر ما في مقال الكاتب هو الأسلوب غير المعهود من الكاتب في ممارسة ((الوأد الفكري)) ضد آراء مخالفيه، فلم تعد القضية قضية فقهية خلافية بين علماء الأمة لا ضير ولا جناح على من أخذ بأحد القولين، بل أصبحت من البدهيات التي من خالف فيها رأي الكاتب فهو جاهل بالإسلام ومشوه لحقائقه؟!
ومع ذلك لم يستطع في كل مقاله أن ينقل رأي إمام واحد من أئمة الإسلام يؤيد به رأيه، ويثبت به خطأ رأي مخالفيه، مع إنه بصدد مناقشة قضية قديمة لعلماء الأمة فيها حكم، فليست واقعة نازلة، أو مسألة حادثة، تحتاج إلى استقلال في النظر والاجتهاد، وهذه بعض أقوال علماء الأمة في هذه القضية.
1- قال إمام الحرمين الجويني ((ت 478 هـ)) في كتابه ((غياث الأمم)) ((62))صفات أهل الحل والعقد : ((فلتقع البداية بمحال الإجماع في صفة أهل الاختيار ثم ننعطف على مواقع الاجتهاد والظنون، فما نعلمه قطعنا إن النسوة لا مدخل لهن في تخير الإمام وعقد الإمامة.. فخرج هؤلاء عن منصب أهل الحل والعقد ليس به خفاء فهذا مبلغ العلم من هذا الفصل)).
أي هذا من القدر المعلوم يقينا عند علماء الأمة وليس هو من المظنون عندهم فيما يشترط في مواصفات أهل الحل والعقد وهي عين المسألة التي يناقشها فهمي هويدي؟
والجويني من كبار أئمة الشافعية، وهو من أهل نيسابور، فلم يتأثر بالبيئة العربية الصحراوية في الجزيرة التي ما زال أهلها يمارسون الوأد المعنوي للمرأة؟
2- وقال البغوي ((ت 516هـ)) في ((شرح السنة)) ((10/77)) : ((اتفقوا على أن المرأة لا تكون إماما)) والبغوي من كبار أئمة التفسير والحديث، ومن أئمة المذهب الشافعي، وهو من أهل خراسان، وبينه وبين الجزيرة العربية مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل الخراسانية، فانتقلت عنه تهمة التأثر بالبيئة العربية والتقاليد الصحراوية؟!
3- وقال الغزالي ((ت 505هـ)) في ((فضائح الباطنية)) ((180)) : ((لا تنعقد الإمامة لامرأة وإن اتصفت بجميع خلال الكمال وصفات الاستقلال))
والغزالي أحد أئمة الشافعية، نشأ في ((طوس)) وتوفى فيها ولم يدخل أرض الجزيرة العربية إلا حاجا، ولا أظنه تلوث بشيء من عادات أهلها الجاهلية؟!
4- وقال ابن حزم الأندلسي ((456 هـ)) في ((الفصل في الملل والنحل)): ((4/10)) ((جميع فرق أهل القبلة ليس منهم أحد يجيز إمامة المرأة)) وقال في ((مراتب الإجماع)) ((145)) : ((واتفقوا أن الإمامة لا تجوز لامرأة ولا لكافر ولا لصبي ولا لمجنون)) واقره على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في ((نقد مراتب الإجماع)) ولم يستدرك عليه فيها، ولم تطأ قدم ابن حزم أرض الجزيرة العربية قط، ولم يحج ولم يخرج من الأندلس وقد تعلم وتأدب على أيدي المعلمات، وعاش في كنفهن، ولا يبدو أنه بينه وبينهن عداء، فبرأت ساحته من تهمه فهمي هويدي؟
5- وقال ابن قدامة ((ت 620)) في ((المغني)) ((14/13)): ولا تصلح المرأة للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا بلدا فيما بلغنا ولو جاز لم يخل منه جميع الزمان)).
وابن قدامة من أئمة الحنابلة ومن علماء الشام.
6- وقال القرطبي ((ت 671هـ)) ((اجمعوا أن المرأة لا يجوز أن تكون أماما)) كما ذكر ذلك في كتابه ((الجامع لا حكام القرآن))((1/270)) وهو من كبار علماء التفسير، ومن أئمة المالكية، من أهل الأندلس.
7- وقال القرافي ((ت 684)) هـ في كتابه ((الذخيرة)) ((10/22)): ((لم يسمع في عصر من الإعصار إن امرأة وليت قضاء فكان ذلك إجماعا لأنه غير سبيل المؤمنين.. وقياسا على الإمامة العظمى)) فقاس القضاء المختلف فيه على المجمع عليه وهو الإمامة، والقرافي مغربي الأصل، مصري السكن، مالكي المذهب، فهو بعيد كل البعد عن مؤثرات الجزيرة العربية وموروثاتها!
وسندع الكاتب فهمي هويدي يحاكم نفسه بنفسه ليكتشف ويعرف مدى غياب الموضوعية في مقاله المذكور.
فهذه بعض النقولات التي تثبت وقوع الإجماع على منع المرأة من الولاية العامة والإمامة في الفقه الإسلامي، وأن مستند هذا الإجماع هو النصوص القطعية من القرآن والسنة، ومعلوم أن النص المحكم هو ما لا خلاف في فهمه وتأويله، والإجماع دليل على كون مستنده قطعي الدلالة، إذ لا يتصور اتفاق جميع العقول على دلالة النص لو لم تكن دلالته قطعية، ولهذا صار الإجماع رافعا للخلاف ودافعا له، فلا اجتهاد في المسألة بعد ثبوت الإجماع، لأن المجتهد لن يصل إلا إلى نفس الحكم المجمع عليه، وإلا فقوله باطل.
قال القرافي في ((الإحكام في تمييز الفتاوى عن الإحكام)).((135)) : ((الإجماع معصوم فخلافه يكون باطلا قطعا والباطل لا يقرر في الشرع فيفسخ ما خالف الإجماع)).
وفهمي هويدي ممن يحتج بالقرافي وكتابه ((الإحكام)) أنظر ((المفترون 210)) إذن ليس أمام فهمي هويدي إلا طريقان : إما أن يطعن في صحة نقل الإجماع، بأن يثبت بالأدلة النقلية الصحيحة عن أحد من الأئمة أنه خالف في هذه القضية، وأجاز أن تكون المرأة إماما، وإنه أجاز لها أن تكون من أهل الحل والعقد، وحينئذ تصبح القضية خلافية وليست إجماعية، ويثبت لنا إن الأئمة الذين نقلوا الإجماع قد أخطئوا في النقل، ومن ثم يسوغ لمخالفيه تقليد القول الأخر، ولا يجوز لفهمي هويدي أن يشنع عليهم، لأنه في الحقيقة إنما يشنع بذلك على الأئمة الذين قالوا بهذا القول، وليس على من قلدهم من المعاصرين.
وإما أن يسلك الطريق الثانية، فيطعن في حجية الإجماع نفسه كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي، وحينئذ كما ساغ له الاجتهاد والرد على الأئمة، فيسوغ لمخالفيه الاجتهاد والرد عليه، وليس له أن يحرم عليهم ما أباحه لنفسه من حق الاجتهاد والنظر في نصوص القرآن والسنة!
هذا ومع أن الإجماع الذي نقله هؤلاء الأئمة هو إجماع كل مذاهب وطوائف أهل الإسلام ـ كما نص عليه ابن حزم وأقره عليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد صرح الجويني بأن إجماعهم على اشتراط الذكورية في أهل الحل والعقد إجماع مقطوع به ـ مع ذلك قفز فهمي هويدي على كل هذه الحقائق لينسب هذا الرأي لبعض علماء السلفية في العقود الثلاثة الأخيرة، في ظل غياب دور الأزهر المعتدل؟!!!
فأيـن هي الموضوعــية في هذا الطـرح؟!
نعم لفهمي هويدي أن يقول بأن عضوية مجلس الأمة ليست ولاية عامة ولا إمامة عامة ومن ثم لا تدخل في نصوص هؤلاء الفقهاء، وأن الولاية العامة هي لمجموع الأعضاء وللمجلس كله كسلطة تشريعية، فهذا القول له وجاهته، ولا حاجة حينئذ لمحاولة نقض الاجماع المذكور آنفا ولا حاجة لنقض القول بمنع إمامة المرأة كما يحاول بعض الفقهاء المعاصرون.
كما يمكن لهويدي أن يقول بأن الإجماع المذكور هو في الإمامة العظمى والخلافة العامة، واشتراط الذكورية إنما هو في أهل الحل والعقد الذين يباشرون عقد البيعة للإمام العام للأمة، وفي ظل عدم وجود الخلافة والإمامة العامة على الأمة، وفي ظل واقع غير شرعي أصلا يسوغ الاجتهاد في مثل هذه النوازل، ولا يحتاج إلى إهدار رأي مخالفيه والطعن عليهم والتكلف في نقض حججهم بلا دليل.
القياس المنكوس :
لم يكتف الكاتب فهمي هويدي بـ ((الوأد الفكري)) لرأي وحجج مخالفيه بل تجرأ على الأدلة وخاض في تفسير النصوص، وشرحها، والاستدلال بها، والتخريج على أقوال الأئمة والقياس عليها مع أنه ليس من أهل الفن والتخصص؟! وقد قال القرافي في ((الذخيرة)) (10/16) : (المقلد قسمان) :
1- (محيط بأصول مذهب مقلده وقواعده بحيث تكون نسبته إلى مذهبه كنسبة المجتهد المطلق إلى أصول الشريعة فهذا يجوز له التخريج والقياس بشرائطه كما جاز للمجتهد المطلق.
2- وغير محيط فلا يجوز له التخريج لأنه كالعامي بالنسبة لحملة الشريعة).
فالكاتب إما إنه يزعم بأنه بلغ درجة الاجتهاد المطلق، ولا أظنه يجرؤ على هذا الادعاء، أو يزعم بأنه محيط بأصول وقواعد مذهب أحد الأئمة الأربعة فليخبرنا ما هو هذا المذهب الفقهي الذي نسب إليه الكاتب هذه الآراء والاستدلالات، وكيف ساغ له التخريج فيما هو أصلا منصوص عليه في كل مذهب؟! فلا مجال لمثل هذه التخريجات مع وجود نصوص الأئمة، لأنه لا اجتهاد مع نص الإمام في دائرة المذهب، كما لا اجتهاد مع نص الشارع في دائرة الفقه الإسلامي عموما.
لقد أخطأ الكاتب خطأ فادحا عندما تصور إنه يجوز قياس الإمامة أو الولايات العامة على ولاية القضاء، لأن هذا (قياس منكوس) ـ إذا جاز التعبير ـ وباطل بإجماع العلماء، إذ لا يسوغ قياس المجمع عليه على المختلف فيه، كما هو معلوم بداهة عند كل من له أدنى إلمام بفن الأصول، وإلا لجاز إباحة الخمر المحرم بالإجماع قياسا على النبيذ عند من أباحه؟! ولجاز إباحة لحم الكلب المجمع على تحريمه قياسا على لحم الثعلب عند من يرى جوازه؟! ولا يشك من له أدنى إلمام بالفقه في بطلان هذا المسلك عند جميع العلماء، إذ الإجماع أصل يقاس عليه، ولا يقاس هو على غيره.
ولهذا منع جمهور الفقهاء من تولية المرأة القضاء قياسا على منعها من الإمامة التي هي محل إجماع بينهم، ولم يقل قط بجواز توليتها الإمامة قياسا على قول من أجاز لها تولى القضاء وانظر كلام الفيلسوف الفقيه ابن رشد المالكي في بداية المجتهد في كتاب القضاء حول هذه المسألة.
وكل ما ذكره الكاتب من استدلالات ما هو إلا خلط وتخليط ومن تكلم في غير فنه أتى بالعجائب؟!
ولا أدل على ذلك من شرحه لحديث (ناقصات عقل ودين) الذي يزعم بأنه (بحت أصوات المنصفين وهي تدعو إلى وضعه في إطاره وسياقه الصحيح)؟! متهما بذلك كافة علماء الأمة من المحدثين والفقهاء بأنهم غير منصفين وم يفهموا الحديث الفهم الصحيح مدة أربعة عشر قرنا حتى جاء الباحثون المنصفون لحقوق المرأة؟!
هذا مع أن الحديث لا يحتاج شرحا ولا بيانا، لا من المتأخرين ولا المتقدمين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي شرح هذا الحديث بنفسه، كما في صحيح البخاري برقم (304) حيث سأل النساء النبي صلى الله عليه وسلم فقلن : (وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ فقال : أليست شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن : بلى، قال : فذلك نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن بلى قال : فذلك من نقصان دينها).
فليس بعد شرح النبي صلى الله عليه وسلم وبيانه بيان، فظهر جليا أن المراد بالحديث أن المرأة أنقص من الرجال في التكاليف الشرعية، فلا صلاة عليها، ولا صوم إذا حاضت، ولا جمعة عليها، ولا جماعة ولا جهاد.... الخ فليس المراد بالدين هنا (التدين) وإنما المراد (التكاليف والواجبات) فالمرأة أقل من الرجل دينا من هذه الحيثية، وهذا ما لا يشك فيه مسلم لأنه من البديهيات، فهذا نقصان دينها أي الفرائض الواجبة عليها.
كما إن المراد بالعقل هنا ليس (الذكاء) أو (القدرة على الفهم) وإنما المقصود (الحفظ) و(التذكر) الذي تقوم به (الشهادة).
ومعلوم أن المرأة من حيث العموم أقل من الرجل قدرة على الحفظ لما تتعرض له أمراض وآلام منذ سن البلوغ إلى سن اليأس، ومن حمل واشتغال بالأطفال، وكل ذلك يضعف الذاكرة ويشوشها فجعل الشارع شهادتها نصف شهادة الرجل وهذا معنى نقص عقلها أي حفظها.
القرن العشرون وفتنة المساواة :
يبدو تأثر فهمي هويدي بالموجة العالمية الداعية إلى مساواة المرأة بالرجل واضحا جليا كما في مقدمة مقاله حيث يقول : (بعض مجتمعاتنا ما زالت تقف بعيدا عن نقطة الصفر في قضية مساواة المرأة بالرجل) في وقت (نطوي صفحة القرن العشرين ونتطلع مع غيرنا من البشر إلى إشراق قرن جديد)؟!
والسؤال الذي يطرح نفسه : ما هي حدود وضوابط هذه المساواة؟ وما هي المرجعية التي يجب أن نحتكم إليها في هذه القضية؟!
بالطبع سيقول فهمي هويدي بأن المرجعية هي نصوص القرآن والسنة القطعية التي تساوي بين المرأة والرجل غير إنه سيكتشف إنه ما زال ـ أيضا ـ بعيدا جدا عن نقطة الصفر في قضية المساواة في نظر البشر الآخرين الذين يتطلع معهم إلى إشراقة قرن جديد!
إذ المساواة في المفهوم الغربي الذي أصبح عالميا وصلت إلى حد إلغاء وصف الذكورة والأنوثة باعتبار أن هذا التقسيم الجنسي مناقض لمبدأ المساواة؟! وإلى حد تجريم أي قانون أو ممارسة تقيد من حرية المرأة أو تخصها بقوانين خاصة، فللمرأة أن تفعل ما تشاء، ولها الحرية المطلقة أن تتزوج أو تعاشر من تريد، دون قيد أو شرط، وأن تمارس حياتها كما يمارس الرجل الغربي حياته؟! مع أن الإسلام لم يجعل هذا الحق حتى للرجل فليس له أن يفعل ما يشاء، وما لم يوافق فهمي هويدي على هذه المساواة المطلقة فسيظل عدوا للمرأة ولن يشفع لفهمي هويدي ادعاؤه بأن الأدلة القطعية من القرآن والسنة ترفض هذه المفاهيم الغربية للمساواة بين الجنسين إذ سيوصف بالرجعية والتخلف بمجرد التفوه بمثل هذه الحجة، وسيجد أنه ليس بيننا وبينه سوى خطوة واحدة فقط وبيننا جميعا وبين نقطة الصفر حسب المفهوم الغربي لمبدأ المساواة ألف ميل؟! فأهدر الكاتب الإجماع من أجل خطوة واحدة؟! والغريب إنه يرى بأن قضية حصول المرأة على حقها في الانتخاب والترشيح قضية (محسومة تاريخيا) وإنها ستحصل على هذا الحق عاجلا أو آجلا؟!
متناسيا أن الواقع لا يكون حجة على الشرع، بل سيظل الحكم الشرعي هو هو، وستظل الفتوى بمنع تولي المرأة للولايات العامة باقية ما بقى على الأرض فقيه يقول بهذا الرأي، حتى لو حصلت المرأة على هذا الحق (الموهوم)، .
وقد ألف العلامة سيد صديق خان كتابه في (بيان مقاصد الإمامة) ونص على حرمة تولي المرأة للولاية مع أن زوجته هي ملكة مملكة " بهوبال " في القارة الهندية فلم (يطوع) الحكم الشرعي من أجل الواقع أو من أجل زوجته التي كان نائبا لها، لأن الفتوى توقيع عن الله عز وجل، فيحرم إضفاء الشرعية على الواقع لمجرد كونه واقعا، بل تنأى المرأة المسلمة عن ترشيح نفسها لمثل هذه الولايات العامة، طاعة الله ولرسوله، وصيانة لها، ولأسرتها، حتى لو كانت ترى جواز ذلك، لعدم توفر الضمانات لتقوم بدورها دون الوقوع في المحاذير الشرعية.
أما إدعاء الكاتب بأن (القضية محسومة تاريخيا) فيذكرنا بدعاوى الاشتراكيين الذين أعلنوا أن الشيوعية (حتمية تاريخية) فإذا هم أول من يتراجع عنها ولما يبلغ عمرها السبعين سنة!
ويذكرنا بدعاوى العلمانيين عن (الحتمية التاريخية للعلمانية) فإذا فهمي هويدي يكتشف في ندوة مركز أبحاث الديمقراطية بجامعة (ويستمنستر) بلدن سنة 1994 م حول (انهيار العلمانية) بأن : (ما بدا لنا أنه مستقر ومحسوم تبين أنه محل نقد ومراجعة وأن الذي يقاتل دونه نفر من المثقفين العرب يفقد بريقه وجاذبيته في مواطنه حتى يكاد يتحول إلى موضة عبرت عن مرحلة تاريخية معينة)!
ويقول أيضا عنة هذه الندوة في كتاب (المفترون) (ص240) : (ففي حين يتعامل البعض في عالمنا العربي من العلمانيين مع العلمانية بحسبانها الحل الأمثل وطوق النجاة إذا بالبعض من الغربيين الآخر في بلاد العلمانية ذاتها يعيدون النظر في المسألة برمتها وهذا البعض من الغربيين ليسوا من أنصاف المثقفين ولكنهم أهل اختصاص ونظر ومنهم قمم عالية في عالم الفكر)! وما أرى هذه المراجعة إلا ستطول قضية (المساواة) كما طالت (العلمانية) فها هي الأصوات بدأت تتعالى بين علماء التربية في الغرب رافضة هذه الدعوة المحمومة للمساواة بين الجنسين، دون مراعاة الفوارق الطبيعية الفطرية بينهما، هذه الدعوة التي ستتحطم على صخرة الواقع، بعد أن أثبتت الدراسات التربوية في الغرب مساوئ هذه المساواة التي أدت إلى ظلم المرأة وهضمها حقها الطبيعي الذي يقتضي معاملتها معاملة خاصة تتوافق مع قدراتها، وهذا ما أكده الباحث التربوي البريطاني ( BEVERLY SHAW) في بحثه حول (التعليم المختلط) حيث أكد في مقدمته أنه لا يوجد أي مبرر لتجاهل الفروق الجنسية بين الذكور والإناث ولا مبرر لعدم التمييز بينهما!
وبعد أن ذكر بعض سلبيات التعليم المختلط الذي يحرم المرأة من حقها في الحصول على مزيد من العناية الخاصة قال في ص (18) : (إن هذه الآراء تمثل بعض المشاكل للمدافعين عن حقوق المرأة)!
ونقل عن باحثة بريطانية قولها : (إن البنين يحتاجون نظرا إلى الاختلاف في تطورهم الجسمي والذهني إلى معاملة مختلفة إذا لم تكن بالضرورة في مدارس مختلفة، ففي فصول دراسية مستقلة على الأقل)! كما نقل عن الباحثة البريطانية (إيلين بايرون) من كتابها (النساء والتعليم) قولها : (لا أتمنى أن أرى عالماً لا يفرق فيه بين الجنسين)!
وكذلك ذكر رأي باحثة أخرى وهي (سيزا دلا مونت) حيث أكدت (أن النساء لا يتمتعن بدرجة الطموح نفسها التي يتمتع بها الرجال لشغل الوظائف الرفيعة)!
ثم قال المؤلف والباحث البريطاني: (هل يمكن لمؤيدي المساواة الجنسية تجاهل أو استبعاد الحقيقة التي مفادها أن البنات مازلن يعتقدن أن الزواج والعمل في المنزل يمثلان جزءا كبيرا من حياتهن المستقبلية)؟!
ويقول في آخر بحثه : (ويعترف دعاة المساواة الجنسية بذلك كله ومع ذلك فإنهم يتهربون من الحقيقة الجلية التي تتلخص في أن حق العديد من الطالبات يهضم في المدارس والفصول المختلطة لمجرد كونها مختلطة وإذا كانت البنت تتعلم على نحو أفضل وتشعر بالسعادة في المدارس والفصول غير المختلطة فإنه يتم التضحية بالمصالح الحقيقية لمثل هؤلاء البنات مقابل شعارات فارغة تطالب بالمساواة التامة بين الجنسين دون النظر إلى الفروقات الجنسية بينهما وقد يعد التصريح بما يخالف هذا الرأي هرطقة إلا أن الباحث يقترح أن البنات والبنين قد يستفيدون على نحو أفضل بعيدا عن الاختلاط وبمراعاتنا لمصالحهم بصفتهم رجال الغد ونساء المستقبل)! كما نصح عالم التربية الأمريكي (ستانلي هول) وهو أحد أبرز علماء أمريكا التربويين : (وطالب المرأة الأمريكية بالعودة إلى وظيفتها الفطرية وعملها الطبيعي في الأسرة والمنزل)!
إن القول بالمساواة بين المرأة والرجل قضية (محسومة تاريخيا) ما هو إلا وهم كبير سيتراجع الغرب عنه إن لم يكن غدا فبعد غد، بعد أن تثبت الدراسات والواقع، أن المساواة المطلقة ليست بالضرورة في صالح المرأة، ولا صالح الأسرة، ولا في صالح المجتمع، وأن العدالة هي المبدأ الذي يجب أن ندعو إليه، وهي إعطاء كل من الرجل والمرأة حقوقه المشروعة التي تقتضيها طبيعة كل منهما، فلا نحرم المرأة من حقها المشروع فنظلمها، ولا نزج بها فيما لا يلاءم طبيعتها فنظلمها أيضا، وقد قال تعالى:} اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلامي دينا { ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال (إن الله أعطى كل ذي حق حقه) وقال (والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها).
لقد أقام فهمي هويدي رأيه على مقدمتين ـ الأولى : أنه يجب المساواة بين المرأة والرجل.
والثانية : أن للمرأة حقا في تولي الولايات العامة.
وكلتا المقدمتين لا أساس لهما من الصحة في الشريعة الإسلامية أو القانون الكويتي ولو كان للمرأة حق مهضوم لما وقف كويتي واحد ضده، ولوجب على الجميع شرعا رده، ولما سكت القضاء الكويتي مدة ثلاثين سنة عن إنصاف المرأة، ولما اعترضت الحكومة على هذا الحق، فثبت بذلك أن كل ذلك (دعوى عريضة) صارت دليلا عند فهمي هويدي!! مع إن المقرر عند علماء الأصول والمنطق والقضاء أنه لا يسوغ جعل الدعوى هي الدليل، بل الدعوى تحتاج إلى دليل لإثباتها، فالقضية كلها هي عبارة عن تنازل من الرجل عن بعض مسؤولياته لتتحملها معه المرأة، وتمت مناقشتها من جميع جوانبها الشرعية والقانونية والاجتماعية، فرأى الشعب الكويتي بأغلبيته رجالا ونساء إغلاق ملف هذه القضية إلى إشعار آخر عن قناعة بلا إكراه أو إجبار فليس في القضية نصر ولا هزيمة، ولا ظلم ولا تطرف، ولا وأد معنوي للمرأة، ولا وأد اجتماعي بسبب التقاليد العربية الصحراوية!