إلى الطبطبائي مع التحية
(4من 4)
د. حاكم المطيري
الأمين العام للحركة السلفية
الرأي العام 8/11/2002
قال د. محمد الطبطبائي عميد كلية الشريعة في مقابلته المنشورة في السياسة بتاريخ 6/10/2002 في شأن الأحزاب السياسية وحكم إشهارها:(الحكم الشرعي هو عدم جواز إشهار الأحزاب داخل المجتمعات الإسلامية لأنه يفرق المجتمع وليس من شأنه توحيد الصف والله عز وجل أمرنا بأن تتوحد الكلمة وأن يتحد الصف لما في ذلك من تحقيق الهداف بشكل أفضل ومشكلة الأحزاب كبيرة جداً وفي حال فتح هذا الباب فسنرى تأثيرها السلبي الكبير على الجميع وظهور الظلم .. والواجب أن نكون حزباً واحداً هو حزب خدمة هذه البلاد .... ) انتهى كلامه .
وقد ذكرنا في الحلقة الثالثة مشروعية العمل الجماعي المنظم وإنه قد يكون واجبا إذا لم يتم الواجب إلا به وهذا ما يدل عليه تصرف طلحة و الزبير وعائشة رضي الله عنهم عندما طالبوا بالقصاص لدم عثمان رضي الله عنه ورأوا أن هذا الواجب لا يتم إلا بعمل جماعي منظم ولم يروا في عملهم بشكل جماعي محذوراً شرعياً .
كما ذكرنا مشروعية العمل السياسية بشكل فردي أو جماعي وهذا ما يدل عليه قول الأنصار يوم السقيفة للمهاجرين (منا أمير ومنكم أمير) كما في صحيح البخاري وقد جاء في رواية الزهري كما في فتح الباري 7/31 :( عن الأنصار قالوا : نختار رجلا من المهاجرين وإذا مات اخترنا رجلا من الأنصار،فإذا مات اخترنا رجلا من المهاجرين كذلك أبداً ليشفق القرشي إذا زاغ ان ينقض عليه الأنصاري وكذلك الأنصاري) وهذا تماماً ما يعرف اليوم بمبدأ (التداول السلمي للسلطة) بين حزبين أو أكثر.
كما ذكرنا في الحلقة الثالثة أن الحزب يطلق على كل جماعة لغة وشرعاً ويطلق في الإصلاح السياسي المعاصر بشكل أخص على الجماعات المنظمة التي تسعى للوصول إلى السلطة التشريعية أو التنفيذية وهذا ما يصدق على الحركات الموجودة اليوم في الكويت كالحركة الدستورية والتجمع الشعبي السلفي .. الخ وأن إشهارها وعدم إشهارها لا يغير ولا يؤثر في الحكم الشرعي فإما أن يفتي د. محمد الطبطبائي بحرمة هذه الأحزاب وحرمة استمرارها وحرمة الانضمام إليها وحرمة دعمها لكونها عملا محرما يخالف النصوص التي تدعو إلى الوحدة ويدعو صراحة إلى حل تنظيماتها القائمة وإما أن يقول بجواز إشهارها .
والسؤال هو :هل المشكلة في نظر الطبطبائي تكمن في وجود الأحزاب السياسية وقيامها وما يترتب عليه من أثار سلبي ؟ أم المشكلة في الإشهار الذي هو عبارة عن تنظيم شؤون هذه الأحزاب في إطار القانون؟
فإن كانت المشكلة في قيام الأحزاب ووجودها فالأحزاب قائمة فعلا وموجودة وتمارس أنشطتها باعتراف حكومي ضمني بدليل دخول بعض قيادتها في التشكيل الوزاري والآثار السلبية التي يخشاها الطبطبائي مرتبطة بوجود الأحزاب وقد وجدت فما معنى قوله إذا :( وفي حال فتح هذا الباب فسنرى تأثيرها السلبي الكبير )؟! فإن لم يكن قد حدث هذا التأثير السلبي اليوم فلن يحدث في المستقبل.
وإن كانت المشكلة في نظر الطبطبائي في الإشهار فالفرق بين الإشهار وعدمه كالفرق بين التنظيم والفوضى!
فنحن لا ندعو إلى إيجاد أحزاب لا وجود لها بل ندعو إلى تنظيم شؤون أحزاب موجودة على أرض الواقع فإما أن يتم إشهارها لتعمل في إطار القانون وتحت رقابة المجتمع وإما تركها تعمل خارج دائرة القانون بشكل فوضوي هذا هو تحرير محل النزاع فهل المصلحة في الإشهار والتنظيم أم في الفوضى وعدم التقنين؟ أما الاستدلال على التحريم بأمر الله عز وجل لنا بالوحدة فاستدلال في غير محله للتالي :
1- أن المقصود بهذا الأمر أن يكون المسلمون جميعاً يداً واحدة تحت راية واحدة بجميع طوائفهم وقبائلهم وقومياتهم ومذاهبهم فانقسام المسلمين إلى دول لكل دولة حكومتها هو المحرم شرعا وهو الذي نهى الله عز وجل عنه وكذلك الاقتتال فيما بينهم .
2- أن الدولة الإسلامية التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم كانت تضم المهاجرين والأنصار والأعراب بقبائلهم فلم يحرم النبي صلى الله عليه وسلم الانتماء إلى هذه القوى الاجتماعية بل حرم العصبية لها بالباطل إذ انتماء الإنسان للمجموعة الأقرب نسباً أو فكراً أو هدفاً أو صفة أمر فطري اجتماعي لم يأت الإسلام لإلغائه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في حروبه يجعل للمهاجرين راية وللأنصار راية ولكل قبيلة راية يقاتل أفرادها تحتها كما في فتح مكة وهذا ما فعله عمر في حروب الفتوح كما في القادسية ومعلوم أن للانتماء أثراً في نفوس العرب لما فيه من المصالح التي هي أرجح مما قد يحصل بسببه من مفاسد .
3- أن وجود الأحزاب السياسية وتعددها لا يتعارض مع أمر الله عز وجل به من وحدة الأمة في دولة واحدة لا شرعاً ولا واقعاً وقد ظهرت التعددية السياسية يوم السقيفة بين المهاجرين والأنصار فلم تمنع من وحدة الأمة والدولة كما تجلت أكثر بظهور حزب علي ومن معه من أهل العراق وحزب معاوية ومن معه من أهل الشام ولم يمنع ذلك من تحاكم الحزبين إلى الأمة واجتماع الأمة في عام الجماعة تحت راية واحدة ودولة واحدة مع استمرار وجود الحزبين وأتباعهما في العراق والشام بعد ذلك عقوداً طويلة.
وأما الواقع المعاصر فهذه دول العالم الغربي من أكثر الدول وحدة واستقرارا مع وجود الأحزاب والتعددية السياسية فيها وها هي الولايات المتحدة الني يبلغ تعدادها ثلاثمائة مليون نسمة من أكثر شعوب العالم استقراراً ووحدة مع قيام نظامها السياسي على أساس الحزبين الديمقراطي والجمهوري .
بينما نجد الدول التي لا وجود فيها للأحزاب من أكثر الدول استبداداً وظلماً وانتهاكاً لحقوق الأفراد فيها، وفيها من الطبقية والتميز العنصري والفئوية ومحاباة أتباع السلطة وتقريبهم وإقصاء المعارضين لها وحرمانهم من حقوقهم وظلمهم ما لا يوجد في الدول الحزبية ولا ينكر هذا الواقع إلا مكابر أو جاهل بالواقع وكل ذلك يؤكد عدم تعارض الوحدة التي أمر الله بها مع وجود الأحزاب السياسية التي تطرح برامج سياسية إصلاحية لتختار الأمة منها من تراه قادراً على حل مشكلاتها.
أما الآثار السلبية التي يخوفنا الطبطبائي من وقوعها عند فتح هذا الباب وتهويله لها بقوله :(سنرى تأثيرها السلبي الكبير على الجميع وظهور الظلم ) .
فواقعة اليوم في مجتمعاتنا لا بسبب الأحزاب بل بسبب الاستبداد السياسي إلا إذا كان الطبطبائي يدعي أنه لا يوجد ظلم ولا فئوية ولا عنصرية بغيضة تمارسها الحكومات الاستبدادية ؟
إن الطبطبائي يمارس ما تمارسه الحكومات من تضليل إعلامي وتخويف للشعوب من الأحزاب والحرية السياسية لتستفرد هي بالسلطة مع إن الأحزاب في الكويت أثبتت قدرتها على القيام بمسؤوليتها أيام الغزو واستطاعت رص صفوفها والتعاون فيما بينها لمواجهة العدو وسدت الفراغ الذي نشأ بعد انتقال الحكومة إلى الخارج ووقفت هذه الأحزاب خلف قيادتها السياسية في أحلك الظروف فكيف يخشى منها في حال السلم والظروف الطبيعية ؟!
لقد أصبح وجود الأحزاب السياسية في الدولة الحديثة العصرية أمراً ضرورياً بإجماع علماء وأساتذة الفكر السياسي وعلومه كضرورة وجود البرلمانات والانتخابات والصحافة الحرة والفصل بين السلطات الخ ..
وإن الادعاء بحرمة إشهار الأحزاب وحرمة الانتماء إليها كالادعاء بحرمة الانتخابات ووجود البرلمانات بدعوى أنه يترتب عليها بعض المفاسد دون نظر للمصالح الكلية والمقاصد الشرعية الكبرى التي تتحقق في ظل وجودها وتنعدم عند انعدامها .
ومع أن أكثر الدول الإسلامية قد قامت فيها أحزاب سياسية إسلامية كما في مصر واندونيسيا والباكستان وإيران ... الخ منذ القرن الماضي ويكاد عامة علماء الأمة يجمعون على جواز الانضمام لها ومناصرتها إلا أن الطبطبائي أبى إلا يعمم حكمه بالتحريم على جميع الدول الإسلامية ؟!
ولن أذكر له فتاوى علماء مصر أو المغرب أو الباكستان أو اليمن وإنما بين يدي فتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية برئاسة الشيخ ابن باز ونيابة عبد الرزاق عفيفي وعضوية ابن قعود وابن غديان تحت رقم (6290) فتاوى اللجنة الدائمة 12/384 حول حكم الانضمام والانخراط في الأحزاب السياسية العلمانية كحزب التقدم والاشتراكية وحزب الاستقلال وحزب الأحرار وحزب الأمة ... الخ وما موقف الإسلام من هذه الأحزاب ومن المسلم الذي ينخرط فيها وهل إسلامه صحيح؟ فكان جواب اللجنة:(من كان لديه بصيرة في الإسلام وقوة إيمان وحصانة إسلامية وبعد نظر في العواقب وفصاحة لسان ويقوى مع ذلك أن يؤثر في مجرى الحزب فيوجهه توجيها إسلاميا فله أن يخالط هذه الأحزاب أو يخالط أرجاها لقبول الحق عسى أن ينفع الله به ويهدي على يديه من يشاء .. ومن ليس عنده ذلك الإيمان ولا تلك الحصانة ويخشى عليه أن يتأثر ولا يؤثر فليعتزل تلك الأحزاب )انتهى.
فإذا كان ذلك هو حكم الانخراط في الأحزاب العلمانية وأنه مبني على مراعاة المصالح فكيف بالانضمام للأحزاب السياسية الإسلامية التي تسعى إلى تحكيم الشريعة وحماية مصالح الأمة؟
إن إشهار الأحزاب كائن لا شك في ذلك إن لم يكن اليوم فغداً ولا يمكن إيقاف عجلة التاريخ والتطور الاجتماعي والسياسي وإنما تكمن الخطورة في تبرير هذا الواقع المتخلف الذي يعيشه العالم العربي من استبداد وظلم وانتهاك لحقوق الإنسان التي تسعى إلى تحكيم الشريعة وحماية مصالح الأمة؟
إن ما ورد في مقابلة د. محمد الطبطبائي هذه من الأخطاء العلمية أكثر من أن تحيط به أربع مقالات ولعل أشدها خطورة قوله:( الواجب أن نكون جميعاً حزباً واحداً هو حزب خدمة هذه البلاد) !!
فهذا من القول على الله بلا علم وإنما الواجب أن يكون المسلمون جميعاً يداً واحدة وصفاً واحداً يجاهدون لإعلاء كلمة الله وشريعته ويدافعون عن بلاد المسلمين كافة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى المصرية 4/509) بلاد الإسلام بمنزلة البلدة الواحدة ) وقد قال تعالى ( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) فالولاء للمسلمين كافة مهما اختلف بلادهم كما في الحديث الصحيح (المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم).