د. حاكم المطيري
الفتوى :
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على النبي الهادي الأمي الأمين وبعد..
فقد تكرر السؤال عن مشروعية دفع الزكاة الواجبة للتنظيمات والمنظمات السياسية والحقوقية التي تعمل في مجال الإصلاح السياسي، وتتصدى للأنظمة الجائرة، وتعمل من أجل رفع الظلم، وتحقيق العدل، وما قد تحتاجه من أموال قد لا تتوفر لها إلا من الزكاة الواجبة، وهل لها أخذها وصرفها في هذا الباب؟
والجواب : نعم يجوز دفع الزكاة الواجبة للجهاد في هذا الباب لعموم قوله تعالى {إنما الصدقات للفقراء ..وفي سبيل الله..} ولا شك في أن من سبيل الله الجهاد السياسي، وهو جهاد السلطان الجائر، كما في الحديث (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، وحديث (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر)، فإذا كان التصدي للجائر من الجهاد بل أفضل صوره، فهو بلا شك يدخل في عموم {وفي سبيل الله}، ولا شك بأن الطاغوت أولى بالجهاد من الجائر، ويدخل في (كلمة حق)، وفي (قام إلى إمام جائر) كل ما تحتاجه (كلمة الحق) وكل ما يحتاجه (القيام على الجائر) من وسائل للتصدي له كالإنفاق على وسائل الإعلام، والإنفاق على تأسيس التنظيمات التي تتصدى له، والإنفاق على أنشطتها...الخ
كما هو الحال في دفع الزكاة في الجهاد في سبيل الله للعدو الخارجي من إعداد الجيوش وشراء الأسلحة وكل ما يحتاجه المجاهدون في هذا الباب.
والله تعالى أعلم ..
دراسة فقهية في مشروعية دفع الزكاة للإصلاح السياسي:
هذه القضية من النوازل العصرية، ما كان لها أن تقع في ظل دولة الإسلام وظهور الأحكام، وإنما وقعت في هذا العصر لقيام أنظمة حكم طاغوتية تحكم شعوب العالم الإسلامي، ويجب على الأمة جهادها قبل جهاد عدوها الخارجي، ويجب العمل على إصلاحها وتغييرها بكل وسيلة ممكنة، ومعرفة الحكم في هذه النازلة يقوم على مقدمتين ضروريتين :
الأولى : في بيان حقيقة سهم في سبيل الله في آية الزكاة.
الثانية : في كون الإصلاح السياسي من الجهاد في سبيل الله.
قال تعالى {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} [التوبة 60]
فقد حددت هذه الآية مصارف الزكاة وعينتها، فلا تصرف الزكاة الواجبة إلا لها وفيها، وقد اختلف الفقهاء في معنى قوله تعالى {وفي سبيل الله} على ثلاثة أقول :
1- فذهب الجمهور إلى أن المراد به هنا الجهاد والقتال، وما يحتاجه المجاهدون مما لا يقوم الجهاد إلا به.
2- وذهب أحمد وإسحاق ابن راهويه وهو قول ابن عباس وابن عمر وهو المذهب عند أصحاب أحمد، إلى أن الحج من سبيل الله، فيدفع لمن لم يستطع الحج من سهم في سبيل الله.
3- وذهب جماعة من السلف كأنس والحسن البصري إلى أن في سبيل الله يعم كل القربات، ويشمل كل ما يصدق عليه أنه من سبيل الله كبناء المساجد والمدارس..الخ.
وسبب خلافهم هو في هل سبيل الله في آية الزكاة على عمومه أم خاص في الجهاد؟
وهل في سبيل الله عند الإطلاق يراد به الجهاد أم لا؟
وقد رجح ابن قدامة أنه عند الإطلاق يراد به الغزو، واحتج بقوله تعالى{وقاتلوا في سبيل الله}، وتعقبه الشيخ محمد رشيد رضا في الحاشية بقوله (هذا غير صحيح! بل سبيل الله هو الطريق الموصل إلى مرضاته وجنته وهو الإسلام في جملته، وآيات الإنفاق في سبيل الله تشمل جميع أنواع النفقة المشروعة، وماذا يقول في آيات الصد والإضلال عن سبيل الله والهجرة في سبيل الله؟ بل لا يصح أن يفسر سبيل الله في آيات القتال نفسها بالغزو؛ لأن القتال هو الغزو، وإنما يكون في سبيل الله إذا أريد به أن يكون كلمة الله هي العليا ودينه هو المتبع، فسبيل الله في الآية يعم الغزو الشرعي وغيره من مصالح الإسلام، بحسب لفظه العربي، ويحتاج التخصيص إلى دليل صحيح).[1]
ولا خلاف بين الفقهاء في أن الزكاة معقولة المعنى وهي تدفع لسببين:
1- إما لمصلحة المدفوع له خاصة، كالفقراء والمساكين لرفع حاجتهم وفاقتهم، والمكاتبين لتحريرهم، والغارمين لقضاء ديونهم، وابن السبيل لإعانته على بلوغ غايته وحاجته.
2- أو لمصلحة الأمة عامة، كالعاملين عليها لجبايتها، والغارمين لإصلاح ذات البين بين المسلمين، وللمجاهدين لحمايتهم للبيضة، والمؤلفة قلوبهم لما في ذلك من كف أذاهم واستجلاب مودتهم لصالح الأمة.
قال ابن قدامة مرجحا عدم دفعها للحاج (الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين محتاج إليها كالفقراء والمساكين، وفي الرقاب والغارمين لقضاء ديونهم، أو من يحتاج إليه المسلمون كالعامل والغازي والمؤلف والغارم لإصلاح ذات البين، والحج للفقير لا نفع للمسلمين فيه، ولا حاجة بهم إليه، ولا حاجة به أيضا لأن الفقير لا فرض عليه فيسقطه، ولا مصلحة له في إيجابه عليه، وتكليفه مشقة قد رفعه الله منها، وخفف عنه إيحابها، وتوفير هذا القدر على ذوي الحاجة من سائر الأصناف، أو دفعه في مصالح المسلمين أولى). [2]
وقد تتابع كثير من متأخري الفقهاء والمفسرين والمحدثين على القول بأن في سبيل الله عامة تشمل كل أنواع البر والقربات، فقد جاء في أبحاث هيئة كبار العلماء[3] (القول الثالث: أن المراد بذلك: جميع وجوه البر؛ لأن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده إلا بدليل صحيح، ولا دليل على ذلك، ولقد قال بهذا القول مجموعة من العلماء من مفسرين ومحدثين وفقهاء، وفيما يلي بعض من أقوالهم:
قال الفخر الرازي : إن ظاهر اللفظ في قوله تعالى: { وفي سبيل الله } لا يوجب القصر على الغزاة - ثم قال: فلهذا المعنى نقل القفال في [تفسيره]، عن بعض الفقهاء: أنهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد؛ لأن قوله: {وفي سبيل الله} عام في الكل. اهـ[4]
وقال الخازن في [تفسيره]: وقال بعضهم: إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على الغزاة فقط؛ ولهذا أجاز بعض الفقهاء صرف سهم سبيل الله إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد، وغير ذلك، قال: لأن قوله: { وفي سبيل الله } عام في الكل فلا يختص بصنف دون غيره. اهـ[5].
وقال محمد جمال الدين القاسمي : ثم ذكر تعالى الإعانة على الجهاد بقوله: {وفي سبيل الله} فيصرف على المتطوعة في الجهاد، ويشترى لهم الكراع والسلاح، قال الرازي : لا يوجب قوله: {وفي سبيل الله} القصر على الغزاة، ولذا نقل القفال في [تفسيره]، عن بعض الفقهاء جواز صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: { وفي سبيل الله } عام في الكل. انتهى.
ولذا ذهب الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الحج من سبيل الله فيصرف للحجاج منه.
قال في [الإقناع]، وشرحه: والحج من سبيل الله نصا، وروي عن ابن عباس وابن عمر؛ لما روى أبو داود ( أن رجلا جعل ناقة في سبيل الله، فأرادت امرأته الحج، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم اركبيها، فإن الحج من سبيل الله)[6] فيأخذ إن كان فقيرا من الزكاة ما يؤدي به فرض حج أو عمرة أو يستعين به فيه وكذا في نافلتهما؛ لأن كلا من سبيل الله . انتهى.
قال ابن الأثير : وسبيل الله عام، يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى الله تعالى بأداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات، وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه انتهى.
وقال في [التاج]،: كل سبيل أريد به الله عز وجل- وهو بر- داخل في سبيل الله. اهـ[7].
وقال أحمد مصطفى المراغي : في [تفسيره]، قوله تعالى: { وفي سبيل الله } وسبيل الله: هو الطريق الموصل إلى مرضاته ومثوبته، والمراد به: الغزاة، والمرابطون للجهاد، وروي عن الإمام أحمد أنه جعل الحج من سبيل الله، ويدخل في ذلك جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد ونحو ذلك.
والحق: أن المراد بسبيل الله: مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد؛ كتأمين طرق الحج، وتوفير الماء والغذاء، وأسباب الصحة للحجاج، وإن لم يوجد مصرف آخر، وليس منها حج الأفراد؛ لأنه واجب على المستطيع فحسب. اهـ[8]
وقال الألوسي : {وفي سبيل الله} أريد بذلك عند أبي يوسف : منقطعو الغزاة، وعند محمد : منقطعو الحجيج، وقيل: المراد: طلبة العلم، واقتصر عليه في [الفتاوى الظهيرية]، وفسره في [البدائع]، بجميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخير اهـ[9].
وقال السيد رشيد رضا في تفسيره: [المنار]، بعد استعراضه الأقوال التي قيلت في المراد بقوله تعالى: {وفي سبيل الله} ما نصه: والتحقيق أن سبيل الله هنا مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر الدين والدولة دون الأفراد، وأن حج الأفراد ليس منها؛ لأنه واجب على المستطيع دون غيره، وهو من الفرائض العينية بشرطه؛ كالصلاة والصيام لا من المصالح الدينية الدولية.. ولكن شعيرة الحج وإقامة الأمة لها منها، فيجوز الصرف من هذا السهم على تأمين طرق الحج وتوفير الماء والغذاء وأسباب الصحة للحجاج إن لم يوجد لذلك مصرف آخر. اهـ[10].
وقال أيضا: {وفي سبيل الله} وهو يشمل سائر المصالح الشرعية العامة التي هي ملاك أمر الدين والدولة وأولاها بالتقديم الاستعداد للحرب بشراء السلاح وأغذية الجند وأدوات النقل وتجهيز الغزاة... إلى أن قال: ومن أهم ما ينفق في سبيل الله في زماننا هذا: إعداد الدعاة إلى الإسلام وإرسالهم إلى بلاد الكفار من قبل جمعيات منظمة تمدهم بالمال الكافي. اهـ[11].
وقال سيد قطب رحمه الله: {وفي سبيل الله} وذلك باب واسع يشمل كل مصلحة للجماعة تحقق كلمة الله، وفي أولها: إعداد العدة للجهاد، وتجهيز المتطوعين، وتدريبهم، وبعث البعوث للدعوة إلى الإسلام، وبيان أحكامه وشرائعه للناس أجمعين، وتأسيس المدارس والجامعات التي تربي الناشئة تربية إسلامية صحيحة، فلا نكلهم إلى مدارس الدولة تعلمهم كل شيء إلا الإسلام، ولا مدارس المبشرين تعتدي على طفولتهم وحداثتهم وهم لا يملكون رد العدوان. اهـ[12].
وقال الحسين السيافي – الفقيه الزيدي - في معرض كلامه على قول زيد رحمه الله: لا يعطى من الزكاة في كفن ميت، ولا بناء مسجد، ولا تعتق منها رقبة. قال: وذهب من أجاز ذلك إلى الاستدلال بدخولهما في صنف سبيل الله، إذ هو طريق الخير على العموم، وإن كثر استعماله في فرد من مدلولاته وهو الجهاد؛ لكثرة عروضه في أول الإسلام كما في نظائره، لكن لا إلى حد الحقيقة المعرفية فهو باق على الوضع الأول، فيدخل فيه جميع أنواع القرب على ما يقتضيه النظر في المصالح العامة والخاصة، إلا ما خصه الدليل، وهو ظاهر عبارة البحر في قوله: قلنا: ظاهر سبيل الله العموم إلا ما خصه الدليل. ا هـ[13].
وقال صديق حسن خان : أما سبيل الله فالمراد هنا الطريق إليه عز وجل، والجهاد وإن كان أعظم الطرق إلى الله عز وجل لكن لا دليل على اختصاص هذا السهم به، بل يصح صرف ذلك في كل ما كان طريقا إلى الله عز وجل، هذا معنى الآية لغة، والواجب الوقوف على المعاني اللغوية حيث لم يصح النقل هنا شرعا. ا هـ[14].
وقال الصنعاني في الكلام على حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة)[15]: (كذلك الغازي يحل له أن يتجهز من الزكاة وإن كان غنيا؛ لأنه ساع في سبيل الله) قال الشارح (ويلحق به من كان قائما بمصلحة عامة من مصالح المسلمين، كالقضاء والإفتاء والتدريس وإن كان غنيا، وأدخل أبو عبيد من كان في مصلحة عامة في العاملين، وأشار إليه البخاري حيث قال: (باب رزق الحاكم والعاملين عليها) وأراد بالرزق ما يرزقه الإمام من بيت المال لمن يقوم بمصالح المسلمين كالقضاء والفتيا والتدريس فله الأخذ من الزكاة فيما يقوم به مدة القيام بالمصلحة وإن كان غنيا اهـ[16].
وقال المباركفوري : وقيل : اللفظ عام، فلا يجوز قصره على نوع خاص، ويدخل فيه جميع وجوه الخير، من تكفين الموتى، وبناء الجسور والحصون، وعمارة المساجد، وغير ذلك، نقل ذلك القفال عن بعض الفقهاء من غير أن يسميه كما في حاشية [تفسير البيضاوي ] لشيخ زاده، وإليه مال الكاساني، إذ فسره بجميع القرب، قال في [البدائع] : سبيل الله عبارة عن جميع القرب، ويدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا. وقال النووي في [شرح مسلم ] : وحكى القاضي عياض عن بعض العلماء : أنه يجوز صرف الزكاة في المصالح العامة، وتأول عليه هذا الحديث- أي : ما روى البخاري في القسامة (أنه صلى الله عليه وسلم وداه- أي : الذي قتل بخيبر - مائة من إبل الصدقة)[17] اهـ[18].
وقال الكاساني : وأما قوله تعالى : {وفي سبيل الله} عبارة عن جميع القرب، فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات إذا كان محتاجا اهـ [19].
وذكر الشيخ محمود شلتوت رحمه الله : أن معنى {وفي سبيل الله} أنه : المصالح العامة التي لا ملك فيها لأحد، والتي لا يختص بالانتفاع بها أحد، فملكها لله، ومنفعتها لخلق الله، وأولاها وأحقها : التكوين الحربي الذي ترد به الأمة البغي وتحفظ الكرامة، ويشمل العدد والعدة على أحدث المخترعات البشرية، ويشمل المستشفيات عسكرية ومدنية، ويشمل تعبيد الطرق، ومد الخطوط الحديدية، وغير ذلك مما يعرفه أهل الحرب والميدان، ويشمل الإعداد القوي الناضج لدعاة إسلاميين يظهرون جمال الإسلام وسماحته، ويفسرون حكمته، ويبلغون أحكامه، ويتعقبون مهاجمة الخصوم لمبادئه بما يرد كيدهم إلى نحورهم، وكذلك يشمل العمل على دوام الوسائل التي يستمر بها حفظة القرآن الذي تواتر- ويتواتر- بهم نقله كما أنزل، من عهد وحيه إلى اليوم، وإلى يوم الدين إن شاء الله. اهـ [20].
وأفتى من سأله عن جواز صرف الزكاة في بناء المساجد، فكان جوابه :(إن المسجد الذي يراد إنشاؤه أو تعميره إذا كان هو المسجد الوحيد في القرية أو كان بها غيره ولكن يضيق بأهلها ويحتاجون إلى مسجد آخر- صح شرعا صرف الزكاة لبناء هذا المسجد أو إصلاحه، والصرف على المسجد في تلك الحال يكون المصرف الذي ذكره في آية المصارف الواردة في سورة التوبة باسم (سبيل الله) وهذا مبني على اختيار أن المقصود بكلمة (سبيل الله) المصالح العامة التي ينتفع بها المسلمون كافة ولا تخص واحدا بعينه، فتشمل المساجد والمستشفيات ودور التعليم ومصانع الحديد والذخيرة وما إليها، مما يعود نفعه على الجماعة . وأحب أن أقرر هنا أن المسألة محل خلاف بين العلماء - ثم ذكر ما نقله الرازي في [تفسيره] عن القفال من صرف الصدقات في جميع وجوه الخير، ثم قال : وهذا ما أختاره وأطمئن إليه وأفتي به، ولكن مع القيد الذي ذكرناه بالنسبة للمساجد، وهو أن يكون المسجد لا يغني عنه غيره وإلا كان الصرف إلى غير المسجد أولى وأحق . اهـ [21].
وسئل الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق عن جواز الدفع لبعض الجمعيات الخيرية الإسلامية من الزكاة، فأفتى بالجواز، مستندا إلى ما نقله الرازي عن القفال وغيره في معنى سبيل الله[22].
وقد استدل أصحاب هذا القول على قولهم بما يأتي :
إن اللفظ عام فلا يجوز قصره على بعض أفراده دون سائرها إلا بدليل ولا دليل على ذلك، وما قيل بأن حديث عطاء بن يسار : « لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة » وذكر منهم غاز في سبيل الله يعين أن سبيل الله هو الغزو فغير صحيح، ذلك أن غاية ما يدل عليه الحديث هو أن المجاهد يعطى من سهم سبيل الله ولو كان غنيا، وسبل الله كثيرة لا تنحصر في الجهاد في.
كما اعتبرت السنة إشاعة الألفة بين المسلمين وتطييب خواطرهم وحفظ حقوقهم سبيلا من سبل الله . . ففي [صحيح البخاري ] في باب القسامة قال : حدثنا أبو نعيم، حدثنا سعيد بن عبيد عن بشير بن يسار : « زعم أن رجلا من الأنصار يقال له : سهل بن أبي حثمة، أخبره أن نفرا من قومه انطلقوا إلى خيبر فتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا، وقالوا للذي وجد فيهم : قد قتلتم صاحبنا، قالوا : ما قتلنا ولا علمنا قاتلا، فانطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله، انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدنا قتيلا، فقال : " الكبر الكبر " فقال لهم : " تأتون بالبينة على من قتله " ؟ قالوا : ما لنا بينة، قال : " فيحلفون " قالوا : لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطل دمه، فوداه مائة من إبل الصدقة.[23]
قال ابن حجر : ووقع في رواية ابن أبي ليلى : فوداه من عنده . وقد جمع بعضهم بين الروايتين بأن المراد من قوله : من عنده، أي : بيت المال المرصد للمصالح، قال ابن حجر : وقد حمله بعضهم على ظاهره فحكى القاضي عياض عن بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المصالح العامة، واستدل بهذا الحديث وغيره . قلت : وقد تقدم شيء من ذلك في كتاب الزكاة، في الكلام على حديث أبي لاس قال (حملنا النبي صلى الله عليه وسلم على إبل الصدقة في الحج)، وعلى هذا فالمراد بالعندية كونها تحت أمره وحكمه وللاحتراز من جعل ديته على اليهود أو غيرهم، قال القرطبي في [المفهم] : فعل صلى الله عليه وسلم ذلك على مقتضى كرمه، وحسن سياسته، وجلبا للمصلحة، ودرءا للمفسدة على سبيل التأليف، ولا سيما عند تعذر الوصول إلى استيفاء الحق . اهـ [24].
وذكر النووي في معرض شرحه حديث القسامة قال : وقال الإمام أبو إسحاق المروزي من أصحابنا : يجوز صرفها من إبل الزكاة لهذا الحديث فأخذ بظاهره . اهـ[25]. انتهى ملخصا من أبحاث هيئة كبار العلماء.[26]
القول الراجح :
وبالنظر في أدلة الجمهور الذين قصروا معنى (في سبيل الله) على الجهاد والغزو وحده، وأدلة المتأخرين من المفسرين والمحدثين والمفتين، الذين توسعوا في المعنى حتى صار يدخل فيه كل عمل خير وبر، يظهر بأن القضية اجتهادية لا نصية، ووجب الجمع بين القولين، والتقريب بين الرأيين، على نحو لا يهدر دلالة اللفظ المنقول، ولا يعطل معنى النص المعقول، وذلك بقصر (في سبيل الله) على الجهاد، كما يقول الجمهور، للقرائن التي تحتف باللفظ وسياق الآية التي جاءت للتحديد في الأصناف الثمانية، وفي القول بأنها تشمل كل أبواب البر إهدار للتحديد، إلا أن معنى الجهاد، لا يقتصر على الغزو وحده، بل يتسع لما هو أعم من القتال، فيشمل كل جهد وجهاد يقوم به المسلمون لإعلاء كلمة الله، وإنما نص الفقهاء القدماء على الغزو من باب التمثيل، لأنه أظهر صور الجهاد آنذاك، ولهذا لا خلاف بينهم في دفعها للمرابطين في الثغور لحماية البيضة، وإن لم يكن منهم غزو.
معنى الجهاد واتساع مفهومه :
وإذا كان الراجح هو أن المراد (في سبيل الله) الجهاد خاصة، وترجح أيضا أن مفهوم الجهاد أعم وأشمل من القتال والغزو، اقتضى البحث عن معنى الجهاد في لفظ الشارع، وهي لا تخرج عن هذه المعاني :
1- قتال العدو الخارجي، قتال دفع أو قتال فتح، وهو أظهر معاني الجهاد، كما في أكثر الآيات.
2- التصدي للعدو الخارجي بالكلمة والإعلام، كما في الحديث (جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم)، فسمى الشارع التصدي لهم بالكلمة جهادا.
3- التصدي للعدو الداخلي، كما قال تعالى {يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين}، ومعلوم بأن جهاد المنافقين هو بالبيان واللسان، ودفع شبهاتهم.
4- التصدي للسلطان الجائر، كما في الحديث (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، فأطلق عليه اسم الجهاد، بل جعله أفضل الجهاد.
قال الشيخ ابن عثيمين (رجل قادر على التكسب، لكن ليس عنده مال، ويريد أن يتفرغ عن العمل لطلب العلم، فهذا يعطى من الزكاة لنفقته؛ لأن طلب العلم نوع من الجهاد في سبيل الله، هكذا قال الفقهاء هنا، وقالوا: إذا تفرغ قادر على التكسب للعلم فإنه يعطى؛ لأن طلب العلم نوع من الجهاد في سبيل الله، وهذا يؤيد ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية، لأن العلم من أنواع الجهاد، وقد جعله الله قسيما للجهاد في قوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة] والصحيح ما قاله شيخ الإسلام).[27]
ولهذا فرق الشيخ ابن عثيمين بين طالب العلم وصاحب العبادة فمع كونهما جميعا في سبيل الله بالمعنى العام، إلا إن طالب العلم في جهاد مصلحته للأمة فيدفع له من الزكاة، لأنه في جهاد، بخلاف العبادة فمصلحتها قاصرة على العابد (فهذا لا نعطيه؛ لأن العبادة نفعها قاصر على المتعبد، بخلاف العلم).[28]
وقال الشيخ يوسف القرضاوي (ولكن الرد الصحيح على القائلين بهذا الرأي يكون بتحديد المراد من (سبيل الله) هل هو خاص بالغزو والقتال -كما هو رأي الجمهور- أم هو عام يشمل كل بر وخير وقربة-كما هو رأي من ذكرنا- وكما يدل عليه عموم اللفظ .
ولكي نحدد هذا المراد تحديدا دقيقا، علينا أن نستعرض موارد هذه الكلمة في القرآن، لنبين ماذا يراد بها حيث وردت، فخير ما يفسر القرآن هو القرآن ...إن السبيل في اللغة هو : الطريق، وسبيل الله هو : الطريق الموصل إلى رضاه ومثوبته، وهو الذي بعث الله النبيين ليهدوا الخلق إليه، وأمر خاتم رسله بالدعوة إليه {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل 125]، وأن يعلن في الناس { هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني }[يوسف 108]، وهناك سبيل آخر مضاد هو سبيل الطاغوت، وهو الذي يدعو إليه إبليس وجنوده، وهو الذي ينتهي بصاحبه إلى النار وسخط الله، وقد قال الله تعالى مقارنا بين الطريقين وأصحابهما{الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت} [النساء 76]
وسبيل الله دعاته قليلون، وأعداؤه الصادون عنه كثيرون {ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله}[الأنفال36]، {ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله}[لقمان 6]، {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله }[الأنعام 116] هذا إلى أن تكاليف هذا الطريق تجعل أهواء النفوس مخالفة له صادة عنه؛ ولهذا جاء التحذير من اتباع الهوى {ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله}[ص26]
وإذا كان أعداء الله يبذلون جهودهم وأموالهم ليصدوا عن (سبيل الله) فإن واجب أنصار الله من المؤمنين أن يبذلوا جهودهم، وينفقوا أموالهم في (سبيل الله) وهذا ما فرضه الإسلام، فجعل جزءا من الزكاة المفروضة يخصص لهذا المصرف الخطير {وفي سبيل الله} كما حث المؤمنين بصفة عامة على إنفاق أموالهم في (سبيل الله) .
معنى سبيل الله إذا قرن بالإنفاق :
والمتتبع لكلمة (سبيل الله) مقرونة بالإنفاق يجد لها معنيين :
1 - معنى عام- حسب مدلول اللفظ الأصلي- : يشمل كل أنواع البر والطاعات وسبل الخيرات، وذلك كقوله تعالى : { مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم }[البقرة 261] وقوله {الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}[البقرة 262] فلم يفهم أحد من هذه الآية خاصة أن سبيل الله فيها مقصور على القتال وما يتعلق به بدليل ذكر المن والأذى، وهما إنما يكونان عند الإنفاق على الفقراء وذوي الحاجة وبخاصة الأذى، وكذلك قوله تعالى{والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم}[التوبة 34] فالمراد بسبيل الله في هذه الآية المعنى الأعم - كما قال الحافظ ابن حجر[29] - لا خصوص القتال، وإلا لكان الذي ينفق ماله على الفقراء والمساكين واليتامى وابن السبيل ونحوها- دون خصوص القتال- داخلا في دائرة الكانزين المبشرين بالعذاب، وزعم بعض المعاصرين : أن كلمة { وفي سبيل الله } إذا قرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد جزما ولا تحتمل غيره مطلقا، وهو زعم غير مبني على الاستقراء التام لموارد الكلمة في الكتاب العزيز، وآيتا البقرة والتوبة المذكورتان تردان عليه .
2- والمعنى الثاني معنى خاص، وهو : نصرة دين الله، ومحاربة أعدائه، وإعلاء كلمته في الأرض، {حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله}[البقرة 193] والسياق هو الذي يميز هذا المعنى الخاص من المعنى العام السابق، وهذا المعنى هو الذي يجيء بعد القتال والجهاد مثل {قاتلوا في سبيل الله}[آل عمران167]، {وجاهدوا في سبيل الله}[البقرة 218] ومن ذلك قوله تعالى بعد آيات القتال في سورة البقرة : {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}[البقرة 195] فالإنفاق هنا إنفاق في نصرة الإسلام وإعلاء كلمته على أعدائه المحاربين له الصادين عنه .
ومثل ذلك قوله تعالى في سورة الحديد{وما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله ولله ميراث السماوات والأرض لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير}[الحديد 10] فالسياق يدل على أن الإنفاق هنا كالإنفاق في الآية السابقة .
وفي سورة الأنفال قال تعالى {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون }[الأنفال 60].
فالمقام يدل بوضوح على أن سبيل الله في الآية هو محاربة أعداء الله ونصرة دين الله، كما صرح بذلك الحديث الصحيح (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله).[30]
وهذا المعنى الخاص هو الذي يعبر عنه أحيانا بالجهاد والغزو، وتفسيرنا له بنصرة الإسلام أولى، وإلا لكان مضمون معنى { وجاهدوا في سبيل الله} جاهدوا في الجهاد " سبيل الله" في آية مصارف الزكاة!
وإذا كان لسبيل الله مع الإنفاق هذان المعنيان : العام والخاص- كما ذكرنا- فما المراد به معنا في الآية التي حددت مصارف الزكاة، والإنفاق ملحوظ فيها وإن لم يذكر لفظه ؟
إن الذي أرجحه أن المعنى العام لسبيل الله لا يصلح أن يراد هنا؛ لأنه بهذا العموم يتسع لجهات كثيرة، لا تحصر أصنافها فضلا عن أشخاصها،وهذا ينافي حصر المصارف في ثمانية،كما هو ظاهر الآية،وكما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله لم يرض بحكم نبي ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء)، كما أن سبيل الله بالمعنى العام يشمل إعطاء الفقراء والمساكين وبقية الأصناف السبعة الأخرى ؛ لأنها جميعها من البر وطاعة الله، فما الفرق إذا بين هذا المصرف وما سبقه وما يلحقه ؟ إن كلام الله البليغ المعجز يجب أن ينزه عن التكرار بغير فائدة، فلا بد أن يراد به معنى خاص يميزه عن بقية المصارف، وهذا ما فهمه المفسرون والفقهاء من أقدم العصور، فصرفوا معنى سبيل الله إلى الجهاد، وقالوا : إنه المراد به عند إطلاق اللفظ؛ ولهذا قال ابن الأثير : إنه صار لكثرة الاستعمال فيه كأنه مقصور عليه، كما نقلنا عنه في أول الفصل...وصحت أحاديث كثيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تدل على أن المعنى المتبادر لكلمة (سبيل الله) هو الجهاد..فهذه القرائن كلها كافية في ترجيح أن المراد من (سبيل الله) في الآية المصارف : هو الجهاد، كما قال الجمهور، وليس المعنى اللغوي الأصلي، وقد أيد ذلك حديث (لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة ) وذكر منهم الغارم والغازي في (سبيل الله) اهـ[31] انتهى كلام الشيخ القرضاوي.[32]
تحقيق القول في معنى الجهاد في سبيل الله :
وإذا تقرر أن في سبيل الله المراد به في آية الزكاة هو الجهاد في سبيل الله، وليس كل أنواع البر والقربات، فإن للجهاد معنى أشمل من المعنى العرفي الشائع وهو القتال في الغزو، بل هو يشمل كل جهد يبذله المؤمنون لنصرة دين الله وإقامة شرعه والعدل والقسط الذي جاء به، كما قال ابن جرير الطبري في تأويل آية الصدقات (والصواب من القول في ذلك عندي: أن الله جعل الصدقة في معنيين أحدهما: سد خلة المسلمين، والآخر: معونة الإسلام وتقويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونة للدين، وذلك كما يعطى الذي يعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنيا كان أو فقيرا، للغزو، لا لسد خلته. وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحا بإعطائهموه أمر الإسلام وطلب تقويته وتأييده).[33]
ولهذا فسر القتال في سبيل الله بمعناه العام فقال في تأويل قوله تعالى{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} [آية البقرة190] (فتأويل الآية - إذا كان الأمر على ما وصفنا - : وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله = وسبيلُه: طريقه الذي أوضحه، ودينه الذي شرعه لعباده = يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي وَعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من وَلَّى عنه واستكبر بالأيدي والألسن، حتى يُنيبوا إلى طاعتي).[34]
فأدخل في مدلول {وقاتلوا في سيل الله} الدعوة إلى دين الله وشرعه بالأيدي والألسن!
وهذا يؤكد أن تفسير أئمة السلف لقوله تعالى {وفي سبيل الله} بالجهاد أو الغزو، ليس على سبيل الحصر والقصر، وإنما هو تفسير اللفظ بأبرز معانيه وأظهرها، كما قال ابن جرير نفسه (وأما قوله {وفي سبيل الله}، فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده، بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار).[35]
ويدخل في الجهاد في سبيل الله والقتال في سبيل نصرة دينه نصرة المظلومين والمستضعفين وتحريرهم ورفع الظلم عنهم، كما في قوله تعالى {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا}.
قال ابن جرير (يعني بذلك جل ثناؤه:"وما لكم" أيها المؤمنون ="لا تقاتلون في سبيل الله"، وفي"المستضعفين"، يقول: عن المستضعفين منكم ="من الرجال والنساء والولدان"، فأما من"الرجال"، فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة، فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم، وآذوهم، ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم ليفتنوهم عن دينهم، فحض الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار..قال محمد بن مسلم بن شهاب {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان}، قال: في سبيل الله، وسبيل المستضعفين).[36]
علة سهم المؤلفة وسهم في سبيل الله :
ويؤكد رجحان هذا الرأي تتابع الأئمة على تعليل هذه المصارف بإعزاز الإسلام وإعلاء كلمة الله ونصر دينه وشرعه، وهذه العلة باقية، كما قال الألوسي في تفسيره روح المعاني (المقصود بالدفع إليهم – أي المؤلفة قلوبهم - كان إعزاز الإسلام لضعفه في ذلك الوقت، لغلبة أهل الكفر، وكان الإعزاز بالدفع، ولما تبدلت الحال بغلبة أهل الإسلام صار الإعزاز في المنع، وكان الإعطاء في ذلك الزمان والمنع في هذا الزمان بمنزلة الآلة لإعزاز الدين، والإعزاز هو المقصود وهو باق على حاله... وفي سبيل الله أريد بذلك عند أبي يوسف منقطعو الغزاة وعند محمد منقطعو الحجيج، وقيل : المراد طلبة العلم، واقتصر عليه في الفتاوي الظهيرية، وفسره في البدائع بجميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله تعالى وسبل الخيرات).[37]
اشتراط العدالة لمن تدفع إليهم الزكاة :
والأحوط في الزكاة الواجبة ألا تدفع إلا للإمام العدل، وتدفع لغير العدل إذا كان يعدل فيها ويضعها في مصارفها، كما قال مالك، وقد سأل سحنون ابن القاسم (أرأيت زكاة الفطر هل يبعث فيها الوالي من يقبضها؟ فقال: قال مالك وسألناه عنها سرا فقال لنا: أرى أن يفرق كل قوم زكاة الفطر في مواضعهم، أهل القرى حيث هم في قراهم، وأهل العمود حيث هم، وأهل المدائن في مدائنهم، قال: ويفرقونها هم ولا يدفعونها إلى السلطان إذا كان لا يعدل).[38]
وكذا قال الشافعي ورواه عن جماعة من أئمة التابعين (وأختار قسم زكاة الفطر بنفسي على طرحها عند من تجمع عنده، أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا عبد الله بن المؤمل قال سمعت بن أبي مليكة ورجل يقول له إن عطاء أمرني أن أطرح زكاة الفطر في المسجد؟ فقال بن أبي مليكة أفتاك العلج بغير رأيه! اقسمها! فإنما يعطيها ابن هشام أحراسه ومن شاء!
أخبرنا الربيع قال أخبرنا الشافعي قال أخبرنا أنس بن عياض عن أسامة بن زيد الليثي أنه سأل سالم بن عبد الله عن الزكاة؟ فقال أعطها أنت! فقلت ألم يكن بن عمر يقول ادفعها إلى السلطان؟ قال بلي ولكني لا أرى أن تدفعها إلى السلطان).[39]
وإنما اختلفت الفتوى في ذلك بين التابعين بحسب اختلاف أحوال الأمراء آنذاك، فالأصل أنها تدفع للعدل من الأمراء، ولغير العدل منهم بشرط أن يكون مأمونا لا يضعها في غير مواضعها، فإذا عرف عنه أنه ينفقها في غير الوجه المشرع لم يجب دفعها له، بل ولا تبرأ الذمة بدفعها له، فإن عرف من حاله أنه ينفقها في حرب الله ورسوله والإسلام وأهله، فهنا يكون دفعها له محرما بالإجماع القطعي، ويأثم دافعها له!
وبناء على ما تقدم من أن :
1- معنى قوله {وفي سبيل الله} في آية الزكاة المراد به الجهاد لإعلاء كلمة الله.
2- وأن معنى الجهاد في سبيل الله يتسع مفهومه لكل صور الجهاد سواء جهاد العدو الخارجي، أو جهاد العدو الداخلي، وسواء جهاد الطاغوت، أو جهاد السلطان الجائر، بنص الكتاب والسنة.
3- وأن العمل السياسي والحقوقي الذي يراد به الإصلاح وإعلاء كلمة الله يدخل في مفهوم الجهاد كما تواترت به النصوص.
4- وأن الجهاد في سبيل المستضعفين، ورفع الظلم عنهم، وتحريرهم، كالجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله.
5- وأن الزكاة لا تدفع إلا للعدول ممن يضعونها في مواضعها على القول الراجح، وللسلطة الشرعية إذا كانت تضعها في مواضعها، وإن لم تتوفر فيها العدالة.
فالراجح بل المقطوع به مشروعية دفع الزكاة الواجبة للتنظيمات السياسية، والمنظمات الحقوقية ممن توافرت فيهم الشروط، وهي عدالتهم الشرعية، وجهادهم في سبيل إعلاء كلمة الإسلام وإقامة دولته، والدفاع عن المؤمنين المستضعفين، بل دفعها للتنظيمات السياسية التي تجاهد الطاغوت وتتصدى له، وتجاهد من أجل الإصلاح ورفع الظلم وإقامة حكم الله، أوجب وأولى من دفعها لمن سواهم، إذ هو واجب الوقت المتعين على الأمة كلها، وإنما نزلت آية الزكاة والأصناف الثمانية بعد قيام الدولة في المدينة النبوية، وبعد قيام الإسلام وظهور الأحكام، وإذا كان الغارمون وهم المدينون يستحقون من الزكاة الواجبة لسداد ديونهم، وكذا المكاتبون الذين يسعون في تحرير أنفسهم من الرق، وأبناء السبيل الذين تنقطع بهم السبل حتى يصلوا بلدانهم، فإن تحرير الشعوب المسلمة المظلومة من أيدي الطغاة أولى وأوجب، وهم أحق بالزكاة الواجبة، وأولى بإنفاقها على تحريرهم ورفع الظلم والطغيان عنهم من المدينين أو المكاتبين أو أبناء السبيل، فقد أمر الله تعالى بالقتال عنهم في قوله {وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين}..
وكل ما يحتاجه هذا النوع من الجهاد السياسي والحقوقي من وجوه الصرف لتحقيق غاياته فجائز صرف الزكاة فيه، كما هو الحال في جهاد العدو الخارجي وما يحتاجه من وجوه الصرف على الأسلحة وتجهيز الرجال..الخ.
ولا يحل صرف شيء من الزكاة فيما وراء ذلك مما لا يحتاجه هذا النوع من الجهاد، والضابط لذلك هو الحاجة التي لا يتحقق الغرض من هذا الجهاد إلا بها، دون ما لا حاجة إليه، وإذا كان القائمون على هذا العمل عدولا، فإن الذمة تبرأ بدفع الزكاة إليهم، ولهم الاجتهاد في صرفها على حاجات هذا النوع من الجهاد.
والله تعالى أعلم .
[1] انظر المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 700
[2] انظر المغني مع الشرح الكبير لابن قدامة 2/ 701
[3] 1/123 .
[4] تفسير الرازي (16/ 113).
[5] لباب التأويل في معاني التنزيل (3/ 92).
[6] مسند أحمد بن حنبل (6/406)
[7] محاسن التأويل (8/ 3181) مطبعة الحلبي.
[8] تفسير المراغي (10/ 745) مطبعة الحلبي
[9] روح المعاني (10/123) المطبعة المنيرية.
[10] تفسير المنار(10/ 585).
[11] تفسير المنار (10/ 587).
[12] في ظلال القرآن (10/ 82).
[13] الروض النضير شرح مسند الإمام زيد (2/ 622) الطبعة الثانية.
[14] الروضة الندية (1/206).
[15] سنن أبو داود الزكاة (1635), سنن ابن ماجه الزكاة (1841), مسند أحمد بن حنبل (3/56), موطأ مالك الزكاة (604).
[16] سبل السلام (2 / 198) مطبعة الاستقامة .
[17] صحيح البخاري الديات (6502), صحيح مسلم القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1669), سنن النسائي القسامة (4719), سنن أبو داود الديات (4523), مسند أحمد بن حنبل (4/3), سنن الدارمي الديات (2353).
[18] المرآة على المشكاة (3 / 117) .
[19] بدائع الصنائع (2 / 245) .
[20] الإسلام عقيدة وشريعة ص 97، 98 الأزهر .
[21] الفتاوى لمحمود شلتوت ص219 .
[22] [فتاوى شرعية] حسنين مخلوف (1 / 296) ط مطبعة المدني بمصر .
[23] صحيح البخاري الديات (6502), سنن أبو داود الديات (4521), سنن ابن ماجه الديات (2677).
[24] فتح الباري (12/ 235) المطبعة السلفية .
[25] شرح صحيح مسلم (11/ 147) .
[26] 1/123 .
[27] الشرح الممتع على زاد المستقنع 6 / 222 .
[28] الشرح الممتع على زاد المستقنع 6 / 223 .
[29] فتح الباري (3 / 172) .
[30] صحيح البخاري العلم (123), صحيح مسلم الإمارة (1904), سنن الترمذي فضائل الجهاد (1646), سنن النسائي الجهاد (3136), سنن أبو داود الجهاد (2517), سنن ابن ماجه الجهاد (2783), مسند أحمد بن حنبل (4/417).
[31] فقه الزكاة للقرضاوي (2 /652-657) ط الأولى .
[32] انتهى النقل مختصرا من أبحاث هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية - (ج 1/ص 143)
[33] تفسير الطبري 14/316 .
[34] تفسير الطبري 3/563 .
[35] تفسير الطبري 14/319 .
[36] تفسير الطبري 8/543 .
[37] 10/ 122 .
[38] المدونة 1/392 .
[39] الأم للشافعي 2/ 69 .